الأربعاء، 25 فبراير 2009

نصوص زيدية في أصول الدين

أولاً: أصول الدين

تتميز من خلال جملة من المسائل العقائدية التي يجمع عليها أئمة الزيدية،والمعروفة بأصول الدين وهي التي يعتبر أن الحق فيها مع واحد أي لا تقبل التعدد والمخالف غير معذور ولا يجوز فيها التقليد ولا يغني فيها الظن ولا يقبل فيها إلا الدليل القطعي المستمد من العقل أو النص المحكم المتواتر. وتلخص إجمالاً في التوحيد والعدل والوعد والوعيد ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بحد السيف(ويلخص الإمام علي عليه السلام التوحيد في القول:التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه،ويوضح الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) (ت122هـ) عقيدة الزيدية في العدل في رسالةٍ لهُ إلى المُجبرَة بقوله : ( ... سُبَحَانَه وتَعالَى عَمّا تَقُولُ المُجْبِرةُ والمشبِّهةُ عُلواً كبيراً. إذ زَعَمُوا أنّ اللّه سُبحَانَهُ وتَعَالَى خَلَقَ الكُفْرَ بنفسهِ، والجُحودَ والفِرْيَةَ عَلَيه ، ...... ، فَقَالُوا: مِنهُ جَمِيْعُ تَقَلُّبِنَا فِي الحَرَكَات، التِي هِيَ: المَعَاصِي، والطّاعَات، وإنّه مُحَاسِبُنَا يومَ القِيامَة عَلى أفعَالِه التِي فَعَلَهَا، إذْ خَلَقَ: الكُفر، والزِّنا، والسَّرقة، والشِّرك، والقَتل، والظّلم، والجُور، والسَّفَه. ولَولا أنّه خَلَقَها - زعموا - ثم أجْبَرَنا عليها، ما قَدَرْنَا على أن نَّكْفُرَ، وأن نُشْرِكَ، أو نُكَذِّب أنبياءه، أو نَجحَد بِآيَاته، أو نَقتُلَ أوليَاءَه، أو رُسُلَه، فلمّا خَلَقَهَا وجَبَرَنا عَليها، وقَدَّرَها لنَا، لَم نَخرُج مِن قَضائِهِ وقَدَرِه، فَغَضِبَ عَلينَا، وعذَّبنا بالنّار طُولَ الأبَد. .... كَلاّ وبَاعِثِ المُرسَلين، مَاهَذِه صِِفَةُ أحكَم الحَاكِمِين، بَل خَلقَهُم مُكَلَّفِين مُستطيعِين مَحْجُوْجِيْنَ مَأمورين مَنهيين، أمَرَنا بالَخْيرِ ولَم يمْنَعْ مِنه، ونَهى عن الشَّر ولم يُغْرِ عليه، .... فنفتِ المُجبرَةُ والمُشبّهَة عَن أنفُسِهِم جَميعَ المَذَمَّات، والظّلم، والجور، والسَّفَه، ونَسَبُوها إلى اللّه عزّ وجل مِن جَميع الجِهَات. فَقَالوا: خَلقَنَا اللّه أشقياء، ثم عَذَّبنا بالنار، ولَم يَظلِمنَا. فأيّ استهزَاءٍ أعظَمُ مِن هَذا، وأيّ ظًلمٍ أوضح، أو جُور أبْيَن مّمَا وصَفوا بِه اللّه عز وجل؟! ، كَلاَّ ومَالِكِ يومِ الدّين مَا هذهِ صِفَة أرحَمِ الرّاحِمِين، مَن يَأمُر بالعَدلِ والإحسان، ويَنهَى عَن الفَحشَاء والمُنكَر، كَمَا قال سبحانه: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ و وُسعها : طاَقَتها. بَل كَلّفَهُم أقلّ مِمّا يُطيقُون، وأعطَاهُم أكثرَ ممّا يَسْتَأهلون، لَم يَلتَمِس بِذلِكَ مِنهُم عِلَّة، ولَم يَغتَنِم مِنهُم زَلَّة، ولَم يُخَالِف قَضَاءَهُ بِقَضَائِه، ولا قََدَرَه بِقَدَرِه، ولا حُكمَهُ بِحُكمِه، تَعالى عمّا تَقول المُجبَرة والمُشبّهة عُلواً كبيراً، إذ شبَّهوا اللّه سبحانه بالجِنِّ والإنس؛ لأنّ الظُلمَ، والجَهلَ، والفُسوق، والفُجورَ، والكُفر، والسَّفَه لا تَكونُ إلا مِنَ الجِنِّ والإنس )) [17]
وقد أوجزها الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي(ع) في الخمسة أصول
(أولهن:-أن الله سبحانه وتعالى إله واحد"ليس كمثله شيء"وهو خالق كل شيء يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير.
والثاني من الأصول:أن الله سبحانه وتعالى عدل حكيم غير جائر لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يعذبها إلا بذنبها،لم يمنع أحدا من طاعته بل أمر بها،ولم يدخل أحداً في معصيته بل نهاه عنها.
والثالث من الأصول: إن الله سبحانه صادق الوعد والوعيد يجزي بمثقال ذرة خيراً ويجزي بمثقال ذرة شراً،من صُير إلى العذاب فهو أبداً خالداً مخلداً كخلود من صير إلى الثواب الذي لا ينفد.
الرابع من الأصول:أن القرءان(القرآن) الكريم مفصل محكم وصراط مستقيم لاخلاف فيه ولا اختلاف،وأن سنة رسول الله ماكان لها ذكر في القرءان(القرآن) ومعنى.
والخامس من الأصول:أن التقلب بالأموال والتجارات والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام وتنتهب ماجعل الله للأرامل والأيتام والمكافيف والزمنى وسائر الضعفاء ليس من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن.
فلايسع أحد من المكلفين جهل هذه الأصول الخمسة بل تجب عليهم معرفتها.)[18])
إن أهم مايميز الزيدية في القرون الأولى هو موقفها من قضتين أساسيتين حددهما الإمام القاسم في الأصل الرابع والخامس.
القضية الأولى:-التأكيد على مرجعية القرآن الكريم واعتباره حكماً فيما اختلفت الأمة حوله من السنة المروية،عملاً بحديث العرض على القرآن(سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنه مني وأنا قلته وما خالفه فليس مني ولم أقله)أو كما قال،وترتب على ذلك التزام الزيدية بعدم القبول بالأخبار المعارضة للقطعي فيما لا يجوز فيه إلا العلم.والتأكيد على معيار نقد متن الخبر بصرف النظر عن سلسلة الرواة.
والقضية الثانية هي قضية العدل الاجتماعي،فمالم توجد الدولة العادلة فإن التجارة والزراعة وأي نشاط اقتصادي يساهم في استمرار الدولة الظالمة ليس من الحل كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان،فالخلاص الفردي غير ممكن بل لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يتم دفع المنكر الذي من أعظمه حكم الظلمة،وتصبح المسؤولية جماعية حتى يتم التغيير،لأن دفع المنكر فرض على الكفاية،وفرض الكفاية يأثم الكل إن لم يؤد، وفي هذا يقول الإمام الهادي إلى الحق(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض من الله لا يسع تركه ولا يحل رفضه، قال تعالى:"الذين إن مكناهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"الحج41) فيجب على المؤمنين إنكار المنكر على الظالمين بأيديهم إن استطاعوا ذلك وإن لم يستطيعوا وجب عليه إنكاره بألسنتهم،فإن لم يمكنهم ذلك وجبت عليهم الهجرة عنهم والإنكار والمعاداة للظالمين بقلوبهم وترك المقام بينهم والمجاورة لهم،فمن لم يستطع ذلك من المؤمنين لكثرة عياله وحاجتهم إليه ولم يكن يستطع أن يشخص بهم معه فليقم عندهم فينة من دهره يكتسب فيها ما يجزيهم ثم يشخص مهاجراً إلى أرض الله حتى إذا خاف على عياله عاد عند حاجتهم إليه،ينبغي إذن أن لا يقيم المؤمن مع الظالمين وأن لا يضيع في نفس الوقت من معه حتى يجعل الله من أمره مخرجاً.
ولا تحل مكاتبة الظالمين ولا مؤانستهم بكتاب ولا غيره،لأن في المكاتبة تطميناً لهم وتحبباً إليهم ومايدعو إلى المودة بينهم والله يقول"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..."المجادلة22)إلا أن يضطر مؤمن مكاتبة ظالم لضرورة يخاف منها إن ترك مكاتبته تلف نفسه فيكاتبه عند الضرورة،)[19]...ويوضح الإمام الهادي أكثر بقوله:.(وإنما يظلم الظالمون ويتسلطون على الناس بأعوانهم الذين يتبعونهم ويعينونهم على ظلمهم،ولو تفرق الأعوان عنهم لم تقم لهم دولة، ولكنهم يتقوون بهم على باطلهم فيستضعفون المستضعفين والله يمهل الظالمين ويسلط بعضهم على بعض"وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون"الأنعام129)وقال تعالى:"...بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد" الاسراء 5 ) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:{لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ،حتى إذا بلغ الكتاب أجله وكان الله هو المستنصر لنفسه فإنه يقول:مامنعكم إذ رأيتموني أعصى أن لاتغضبوا لي}[20](والظالمون لأنفسهم أو المستضعفون من الرعية أصناف:قوم قالوا بالجبر ونسبوا أفعال العباد إلى الله وقالوا إن هذا الظلم الذي نزل بنا من قضاء الله وقدره،ولولا أن الله قد قدره عليناً ماقدر الظالم أن يظلمنا،فإن كان هؤلاء ينسبون شرار أفعال الخلق إلى الله فكيف يدعونه، وكيف يستعينون به على ظالمهم؟إنهم يدعون إلههم الذي قضى عليهم الظلم وقدره،لا إله العالمين العادل في حكمه المنزه عن أفعال العباد،ولذا أسلمهم الله إلى ظالمهم؟ وحرمهم من توفيقه وخذلهم ولم ينصرهم وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو المقدر لهذا الظلم الذي نزل بهم في تخليهم ،أما أنهم لو أنصفوا وعرفوا الله حق معرفته ونفوا عنه ظلم عباده كما نفاه عز وجل عن نفسه ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ثم دعوا ربهم على ظالمهم لاستجاب لهم وكشف مابهم من الظلم والجور،قال تعالى:"كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين"يونس 103)وقال أيضاً:"وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" الروم:47)
ومنهم الذين يعينون الظالمين ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم وينصرونهم على قتل المسلمين وهتك حريمهم وأخذ أموالهم،ولولا التجار والزارعون ماقامت للظالمين دولة ولا ثبتت لهم راية،ولذلك قال تبارك وتعالى:"ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" هود113)الحراثون يحرثون والظالمون يحصدون،الحراثون يجوعون والظالمون يشبعون،إنهم يسعون في صلاحهم وهم يسعون في هلاك الرعية،هم لهم خدم لايؤجرون وأعوان لا يشكرون،فراعنة جبارون،وأهل قنا(فحش)فاسقون،إن استرحموا لم يرحموا،وإن استنصفوا لم ينصفوا، ؟؟؟؟قد اتخذوا دين الله دغلاً وعباده خولا وماله دولة بما يقويهم التجار والحراثون،ثم هم يقولون أنهم مستضعفون،كأن لم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى فيهم وفيمن اعتل بمثل علتهم إذ يحكى عنهم قولهم:"إن الذين تتوفاهم الملآئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا" النساء:97)وقال سبحانه"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة"النساء 100)[21]
ويؤكد الإمام الهادي إلى الحق يحيي بن الحسين ([22])
إجماع الأمة على هذه الأصول،كما يؤكد على أن عقيدة الزيدية هي المجمع عليه،وفي ذلك يقول:(أن جميع الأمة بجملة قولنا مصدقون..وهم فيما ندين الله به من أصول التوحيد والعدل وإثبات الوعد والوعيد،والقول بالمنزلة بين المنزلتين،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدقون...وذلك أنهم شهدوا:أن الله واحد ليس كمثله شيء،ثم نقضت ذلك المشبهة بقول من قال منهم إنه على صورة آدم،...فلما شهدوا لنا أنه واحد ليس كمثله شيء،أخذنا بذلك وتركنا اختلافهم،
وأما شهادتهم لنا في العدل فإنهم شهدوا أن الله تبارك وتعالى عدل لا يظلم ولا يجور،وأنه خير للخلق من الخلق لأنفسهم،وهو أرحم الراحمين،ثم نقضت ذلك المجبرة،بقول قائل منهم:إنه كلف العباد مالا يطيقون،وأنه أخرجهم من الطاعة،وأنه عذبهم على ماخلقهم فيهم......فأخذنا بما شهدوا لنا به في أصل شهادتهم:انه عدل لا يظلم،ولا يجور،ولا يعبث وأنه حكيم رحيم عدل كريم وتركنا مانقضوا به جملتهم عند اختلافهم...
أما شهادتهم لنا في الوعد والوعيد،فإنهم شهدوا جميعاً:أن الله تبارك وتعالى صادق في جميع أخباره،وأنه لايخلف الميعاد،ولايبدل القول لديه،صادق الوعد والوعيد في أخباره،ثم نقض المرجئة،بقول من زعم أن الله جائز أن يعفو لمن قد أخبر أنه يعذبه.
وأدعى بعضهم الخصوص في الأخبار،فزعموا أن كل خبر جاء من الله عاماً في الظاهر،فقد يجوز أن يكون خاصاً،كقول الله عز وجل"وإن جَهَنمَ لَمُحيِطَةٌ بالكافرين"فزعموا أنه يجوز أن يكون عنى بعض الكافرين دون بعض .....وزعم بعضهم أنه ليس في أهل الصلاة وعيد وإنما الوعيد في الكفار خاصة دون غيرهم.
وكل هؤلاء وغيرهم من أصناف المرجئة ناقضون لمعنى ما أخبر الله في كتابه،وحكم به من وعده ووعيده
فلما شهدت لنا الفرق كلها أن الله صادق الوعد والوعيد،لاخلف لوعده،ولاتبديل لقوله،أخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك،...
وقولنا:إن أهل الكبائر من أهل الصلاة فساق وفجار أعداء الله،ظلمة معتدون فإنهم شهدوا لنا بذلك فشهدنا بما شهدوا.
ثم ادعى بعض الخوارج:أنهم كفار،وأن فسقهم قد بلغ بهم الكفر والنفاق دون الشرك،وقال بعضهم:بلغ بهم فسقهم الكفر والشرك..
وادعت المرجئة:أنهم مع فسقهم مؤمنون،وخالفهم في ذلك عامة الأصناف.
وقالت المعتزلة:هم فساق وفجار لايبلغ بهم فسقهم كفراً ولاشركاً ولانفاقاً،وكذلك قالت المرجئة والعامة
وقالت المعتزلة أيضاً:لايجب لهم أسم الإيمان مع الفسوق،وكذلك قالت الخوارج والزيدية...
فوجدناهم كلهم قد أجمعوا على شهادة واحدة أنهم فساق فجار معتدون،فأخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك،وتركنا ما أختلفوا فيه...
أما شهادتهم لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنهم شهدوا أن ذلك واجب إذا أمكن وقدر عليه،وشهدوا أن نصرة المظلوم فرض،والأخذ على يد الظالم فرض إذا أمكن ذلك،ثم اختلفوا بعد ذلك فقال منهم قائلون:لاندفع الظالم عن أنفسنا ولاعن غيرنا إلا بالقول والكلام،وإن انتهبت أموالنا،وانتهكت حرماتنا لم نقاتل بالسلاح.....
وقال آخرون:نقاتل وندفع عن أنفسنا وعن حرماتنا وأموالنا بالسلاح وغيره،فإن قتلنا رجونا أن نكون شهداء،وإن قتلناهم رجونا أن نكون سعداء.فأخذنا بما أجمعوا عليه
)[xxiii] أي أن عقيدة الزيدية في الأصول هي العقيدة المجمع عليها وأنها لا تخالف أي مذهب أو فرقة إلا فيما انفردت به الفرقة الأخرى فخالفت بقية المسلمين في أصول العقيدة المتعلقة بالتوحيد والعدل وصدق الوعد والوعيد ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بحد السيف،
(هذا هو نهج الزيدية في أصول عقائدها، ودعوتها محتسبة أجرها عند الله، ابتداءً بنهج قائدها وسيدها وقدوتها، إمام المستضعفين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي تابع طلب الشهادة لنفسه في مقاومته الطغيان والطغاة، حتى ظفر بها، وهي غية رغبته ومناه وكسبه الذي لم يخرج من الدنيا بسواه، بعد جهاده الطويل وبلائه المرير في الله، ومواساته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمه الله بها، ابتغاء لأجر ذلك وفضله، ولو كان ذلك الجهاد والبلاء والابتلاء من أجل الدنيا وزخرفها وزبرجها – وحاشاه- وتكون النهاية ضربة برأسه من سيف شقي، لكان الإمام علي بن أبي طالب في جهاده بحياة الرسول ومن بعده، وتعبه في تجويع نفسه، وتقشفه بخشونة ملبسه وجشوبة مأكله، وقنوعه بالقرص مطعوماً، والملح مأدوماً، وترقيع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وهو يقدر أن يحصل على مصفى العسل ولباب القمع ونسائج القز، ولكنه يأبى ذلك ويقول: (هيهات أن يقودني جشعي ويغلبني هواي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع) فإذا كان هذا كله وأكثر بكثير منه من أوصاف حياته من أجل الدنيا ونيلها، وقد خرج صفر اليدين منها، وبتلك النهاية التي قتل فيها، إذا كان هذا، والعياذ بالله، فيا خيبة المسعى وخيبة الداعي ومن دعى، ولكن لا لا، إنها معرفته بالله، وما أوجب على العلماء، وعلى أئمة العدل والتوحيد، ذلك هو ما جعله يفعل بنفسه ذلك كله، وهو على يقين مما وعده ربه، وإن له عنده للحسنى وزيادة، فهو يكدح لها لا لسواها، ويقول عند يقينه من استشهاده فرحاً مستبشراً: (فزت ورب الكعبة)، نعم إنه فاز بالشهادة التي كان يسعى لها لا إلى درهم ولا دينار، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوته في كل أفعاله وأقواله.
فكان يحمد الله إذ جعله قائداً له يتبعه ويطأ عقبه، وجاء من بعد الإمام علي ابنه الإمام الحسين بن علي، فكان أبوه قدوته، وأبى إلا الخروج على الظلم والظالمين، رافضاً قبول نصائح القاعدين عن الثورة على الطغيان عند دعوتهم له إلى القعود إيثاراً للسلامة، وتبعه في الاهتداء والاقتداء الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم، وقال للناس الذين أرادوا تثبيطه عن الخروج: (والله لو لم أكن إلا أنا وحدي وابني لخرجت على هشام، فليس الإمام منا من أرخى عليه ستره، وإنما الإمام من شهر سيفه)، وأقدم على الموت، وهو ينشد لأصحابه:
أذل الحياة وعز الممات * * * وكل أراه طعــــــــاـاًـلاً
فان كان لابد من واحد * * * فسيروا إلى الموت ســـيراً جميــلاً
وهكذا تتابعوا للموت، وقتل معهم أتباعهم من الزيدية تحت كل كوكب، ممن لا يأتي عليهم الحصر.
ومن سلمت له نفسه من أئمة الزيدية المحسنين المجتهدين المؤلفين، يكون قد ضحّى في جهاده بأعز أتباعه وأولاده، ولم يحرم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من الانتفاع المقصود منها، فلم يكونوا بمؤلفاتهم وإرشادهم وهدايتهم، يسألون على ذلك أجراً، ولا كان لهم من عوضاً وفراً، وإلا فأخبرونا أي أجر ووفر نعموا به منها؟ وهل ترونهم صنفوا وألفوا ليقدموا مؤلفاتهم لمطابع تاريخ عصرهم، فيكسبون من رواج بيعها وأرباح ثمنها؟ أو أنه ما أخذ الله على العلماء من البيان، وعدم الكتمان لواجب الهداية إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟ فما لكم (كيف تحكمون)
(قال عبيدالله بن العلا، قال: سمعت رجلاً يسأل زيد بن علي عليه السلام عن قول اللّه عز وجل: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: 23]، ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البخل: 93]، ثم قال: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 85]، ثم قال: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾ وعن قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 35 ـ 36] . وما معنى هذا الضلال والإضلال؟

قال زيد بن علي عليه السلام: معانيه مختلفة:

الإضلال من اللّه عز وجل بوجهين، أحدهما: التسمية بالضلال، والحكم على أهله بالعذاب، كما يقول القائل: كفَّرت الرجل وفسَّقته وزنَّيته إذا سميته بذلك.
والمعنى الثاني: الخذلان والترك والتخلية بعد المعصية من المخذول، وهو أن يخذله فلا يزيده في قوته ولايشرح صدره ببسطه له، هذا حكمه في العاصين، كما يقول الرجل لصاحبه: أهلكت ابنك وأفسدته، أو خادمك، إذا خليت بينه وبين هواه، ولم تأخذ على يديه، وأنت لم تدخله في فساد أكثر من التخلية والترك، وقد كان معه من عقله وقوة اللّه فيه ما يردعه عن المعصية، وإن أنت لم تأخذ على يديه وخليته فالحجة عليه، وكذا التخلية من اللّه سبحانه إنما هي ترك الزيادة في قوته، وقد تقدم إليه بوعد اللّه ووعيده وتقويته له.
وأما الضلال من الآدمي لمثله، ومن الشيطان، فهو الدعاء والتَّزيين للمعصية، فإذا دعوته إلى معصية وزينتها له فقد أغويته وأضللته، وهذا المعنى منفي عن اللّه جل اسمه.
وأما إضلال الأصنام وهي لاتدعو إلى ضلال ولاتعقل، وذلك كقوله: ﴿وَلاَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً﴾ [نوح: 23ـ24]، وإنما ذلك لأن القوم لما ضلوا عن الأصنام وكانت سبب ضلالهم؛ لأنهم عبدوها سميت مضلة لهم، كقولك: قد أهلكت هذه المرأة الرجل وأفسدته، وأذهبت عقله ولعلها لم تعلم به ولم تره، ولكنها لما فسد عنها قيل ذلك، فهذا مجاز الضلال.
قال: كذلك الهدى يكون على وجوه، فمنها قوله: ﴿وَهَدَينَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 87]، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشعراء: 52]، وقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: 73]، فأخبر أنه يهدي، وأن النبي يهدي، وأن المؤمنين يهدون.
والمعنى من اللّه في الهداية: دلالته على الحق، ودعوته إليه وتسميته به، والدليل على ذلك قول اللّه عز وجل: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَينَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت: 17]، والمعنى: دللناهم وبينـا لهم، وقال: ﴿إِنَّا هَدَينَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: 3].
والهداية الثانية من اللّه: العصمة هكذا حكمه جل ثناؤه فيهم.
وأما الهداية من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والمؤمنين، فالدلالة وحدها، والبيان والمعنى الزائد في القوى وشرح الصدور عن إبادتها كذلك.)[xxv]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق