الثلاثاء، 17 مارس 2009

من الفكرة إلى الطائفة الهلال الشيعي وزيدية اليمن مثالاً(عبدالله حميد الدين

من الفكرة إلى الطائفة
الهلال الشيعي وزيدية اليمن مثالاً


منذ فترة أثير احتمال انضمام زيدية اليمن إلى الهلال الشيعي. وفي هذه الورقة سأفكر بصوت عال في موضوع في غاية الأهمية وهو التمييز بين الانتماء الفكري وبين الانتماء الطائفي، وذلك لأطرح بعض النقاط حول فكرة "الهلال الشيعي" والزيدية كمثال للخلط بين الفكرة والطائفة.
خلاصة ما يلي هو أن أكون سنياً/شيعياً/إباضياً/زيدياً لا يعني أنني أنتمي لكل سني/شيعي/إباضي/زيدي ماضياً أو حاضراً. فالتفضيل الفردي لفكرة أمر، والانتماء لمن تبنى تلك الفكرة أمر آخر. أن أفضِّل اتباع فكر ابن تيمية شيء، وأن أشعر بالانتماء لكل من يتبع فكره آخر. وبالتالي فإنه لا يصح افتراض أن الناس ستنتمي لمن يوافقها في الفكرة؛ أي لا يصح استنتاج أو تفسير الطائفة بسبب الاشتراك بالفكرة. وأيضاً إذا وجدنا تحالفاً بين مجموعات طائفية بينها تشابه في الفكر، فعلينا أن نفسر التحالف بالانطلاق من معطيات أخرى غير التشابه الفكري.

وتنطلق هذه الورقة من مجموعة من الافتراضات:
1. الهوية لا تكون هوية إلا في سياق تفاعلات اجتماعية. لو عشت في جزيرة معزولاً عن الناس فلن يكون لي أي شعور بأي هوية. الهوية تقوم على عنصرين أساسيين: ما أنا؟ وما لست أنا؟ والعنصران يحتاجان إلى إنسان آخر ليمكن الإجابة عليهما.
2. مجرد حمل فكرة لا يحولها إلى هوية أساسية إلا إذا أصبحت جزءا من العملية المعيشية. فأن أكون مسلماً لا يعني أن الإسلام سيشكل هويتي الأساسية إلا إذا أصبح هذا الانتماء مؤثراً على علاقاتي الاجتماعية ومصالحي المعيشية. ومن الأمثلة الجيدة لهذا هو لون البشرة. فأن أكون أبيضاً أو أسوداً لا يصبح جزءا من هويتي إذا كنت ساكناً في منطقة لا يؤثر فيها لون البشرة على العلاقات الاجتماعية. ولكن سيصبح اللون جزءا من هويتي لو كنت أعيش في الولايات المتحدة أو جنوب إفريقيا. ولو عشت مسلماً في بيئة لا تعير الدين أي اهتمام جوهري فلن أشعر أن الدين هوية أساسية. والأمر ينطبق على جميع الانتماءات الفكرية والدينية المختلفة، بل حتى العرقية.
3. الهوية الاجتماعية شعور بالانتماء لجماعة. قد يكون الانتماء لمحبي الورد. وقد يكون الانتماء لمن يملكون سيارات من نوع معين. وقد يكون الانتماء لمن يعيش على أرض معينة. وقد يكون الانتماء لمن يحمل فكراً مشابهاً. وقد يكون الانتماء لمن يمرون بظروف متشابهة مرضى السكر مثلاً. ويحسن الإلتفات إلى أمرين:
• قبل الانتماء: مجرد التشابه لا يعني وجود انتماء. الانتماء يتكون عندما تقترن مصالح معينة به.
• بعد الانتماء: المسوؤليات التالية للانتماء تعتمد على المصالح المقترنة.
وبالتالي فإن مجرد الاشتراك في فكرة ليس مكوناً لطائفة. الهوية الفردية لا تتحول إلى هوية اجتماعية بشكل تلقائي. فلو كان هناك 1000 مسلم يعيشون في قرية، فلا يعني هذا أنه سيكون بينهم شعوراً جمعياً بأنهم مسلمون. كما إن هذا الاشتراك لا يحدد نوع المسؤوليات التي سيشعرون بإزاء بعضهم البعض. بل لا بد من صناعة الهوية الاجتماعية من خلال ربطها بمجموعة من المصالح .
4. الانتماء الطائفي أو المذهبي هو هوية اجتماعية وليس دينية. فأن أتبنى أفكار زيد بن علي أو الباقلاني أو ابن تيمية أمر... وأن أنتمي لمن ينتمي لتلك الأفكار شيء آخر تماماًً. وبما أنها هوية اجتماعية، وبما أن كل هوية اجتماعية إنما تكونت لأجل مصالح، فلا بد من الحديث عن المصالح التي تجمع أناس تحت مظلة طائفية.
5. الإنسان يحمل مجموعة من الهويات الأساسية الفردية والاجتماعية، وهو يختار متى يوظفها حسب معادلات المصالح الحالية. مثلاً: امرأة مسلمة مغربية أمازيغية زوجة أم أخت بنت … كلها هويات مختلفة وكل هوية تتبعها أدوار ومسؤوليات وكل هوية يتم تفعيلها حسب الظروف المحيطة.


على ضوء هذه الفرضيات سأطرح سؤالين وأجيب عليهما:
هل يمكن أن أقول إن خلافات اليوم هي امتداد لخلافات الأمس؟
وهل يمكن القول بأن طوائف اليوم هم امتداد لطوائف الأمس؟

الجوابان: لا. ولا.
فلكي يكون الخلاف اليوم امتداداً لخلافات الأمس لا بد من أن تكون معادلات الربح والخسارة أي روح تلك الخلافات هي نفسها. ولكن واقع الحال أن تلك الروح اختلفت. فمعادلات الربح والخسارة اختلفت نوعياً وبالتالي فلا يمكن اعتبار خلافات اليوم امتداداً لخلافات الأمس. خلافات اليوم هي صنيعة اليوم، وإن كانت توظِّف بعض منتجات الماضي. الخلاف السني الشيعي في لبنان ليس امتداداً للخلاف السني الشيعي في العصر الأموي وما بعد، لأن معادلات الربح والخسارة في القرن الأول للهجرة وفي البيئة الاجتماعية والسياسية آنذاك غير ما هي في هذا الزمن وفي بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة تماماً، وهكذا. هناك قطيعة بين الحاضر والماضي يجب إدراكها حين ننظر إلى خلافات اليوم. نحن اليوم أمام اختلافات من نوع آخر تماماً، ومحاولات التحليل بالاستناد إلى الماضي توقعنا في أخطاء متعددة.

ثم إذا اعتبرنا أن الطائفة نفسها تكونت على أسس مصالحية، فهذا يعني أن تحول تلك الأسس يعني تحول الطائفة. فالطائفة تتكون من وعي أفرادها بضرورة الانتماء لبعضهم البعض بسبب مصالح ما، وباختلاف هذا الوعي تختلف الطائفة روحاً، حتى لو تشابهت شكلاًً. شيعي اليوم يملك وعياً بشيعيته تختلف عن وعي شيعي قبل 1000 عام، والأمر كذلك على السني والإباضي والإسماعيلي. والجهود التي يبذلها قيادات الطوائف في تعزيز الانتماء التاريخي هو من أجل محاولة خلق هذا الاستمرار في الوعي. ولكن لا يمكن أن يتشابه وعي من يقرأ التاريخ مع وعي من عاش ذلك التاريخ، كما لا يمكن أن يتشابه وعي من يعيش الألم من من يقرأ عنه. يمكن التعاطف، ولكن التعاطف لا يكفي لصناعة طائفة.

هذه الفرضيات تشكل خلفية الورقة وخلفية الاقتراحات في الأخير.


الهلال الشيعي:
استخدام العبارات الطائفية أو الإثنية في رسم الخارطة السياسية ليس جديداً، وعبارة الهلال الشيعي تقع ضمن هذه الاستخدامات. من المفارقات أن هذه العبارات تصنع الواقع الذي تشير إليه أكثر مما تصفه، كما إنها تُخفي أبعاداً بقدر ما تُظهر أخرى. تصنع الواقع لأنها ترفع من درجة الوعي المذهبي، وتسهم في تحويله من وعي فردي إلى وعي جماعي. تُخفي أبعاداً: لأنها بقدر ما تركز الأنظار على واقع مفترض، فإنها تصرف الانتباه عن الواقع الحقيقي.

محاولة فهم هذه العبارات يحيلنا إلى قضايا الهوية، وهي من أعقد الموضوعات الاجتماعية. وما يمكن قوله هنا هو أن لفظ "الهوية" مشترك لفظي ذات دلالات وإيحاءات متعددة غاية التعدد. فكلمة "شيعي" لفظة واحدة تشير إلى مضامين مختلفة. قد تشير إلى مضمون مذهبي: أي العقيدة والوعي التاريخي لأيام الإسلام الأولى. وقد تشير إلى مضمون طائفي: أي جماعة ذات خطاب مذهبي مشترك، وظروف سياسية واجتماعية واقتصادية متقاربة. وإلى مضمون تحالفي: أي أرضية تكوين تحالفات بين من يتفق على الانتماء المذهبي. لهذه المضامين المختلفة تجليات وأغراض.
عندما يتواجه سني وشيعي في مساحة لا توزع المصالح بناء على المذهب، فإن المضمون المذهبي للتشيع سيكون هو الأبرز بينهما. شيعي لبناني أمام سني لبناني، غير شيعي إيراني مع سني أمريكي. في الحالة الثانية فإن الاختلاف المذهبي سيكون هو الأبرز لعدم وجود مصالح مقترنة به. في الحالة الأولى فإن الأمر يعتمد على سياق اللقاء. فإذا كان توزيع مصالح الطوائف في لبنان، فإن الهوية الطائفية هي الأبرز، والهوية الشيعية مجرد اسم. الهوية المذهبية تكون هي الأبرز أيضاً عندما يسعى شيعة لتحالف سياسي مع سنة. وبقدر حيوية المصالح السياسية بينهم، بقدر ما سيختفي حضور الهوية الشيعية في لحظات العمل المشترك، وإن كانت لا تختفي تماماً.
عندما يكون هناك تنافس بين شيعة وسنة على توزيع مصالح بينهم فإن الهوية التي تبرز هنا هي الهوية الطائفية. والهوية المذهبية لا تمثل سوى الخطاب الظاهري. وكذلك عندما يسعى شيعة من وطن واحد للتحالف فيما بينهم، في سياق توزيع مصالح على الطوائف، فإن الهوية الطائفية هي البارزة.
وعندما يسعى شيعة من أوطان مختلفة للتحالف السياسي فيما بينهم، فإننا أمام هوية تحالفية لا علاقة لها بالمذهبية أو الطائفية. وهذه لا توجد إلا عندما يوجد وعي مشترك بالظلم والحرمان. ويصعب ـ إن لم يستحيل ـ إقامتها بغير ذلك.

يمكن الاستمرار في ذكر احتمالات اللقاء بين سني وشيعي، وتحليل نوع الهوية البارزة بينهم. والغرض هو التأكيد على صعوبة إطلاق أي عبارة طائفية أو مذهبية في وصف العلاقات بين الأفراد والمجتمعات. فتدل هذه الأمثلة على تعدد معان الهوية بتعدد سياق استعمالها. وتدل على أن الهوية الشيعية هوية ظرفية ذات اشتراك في الاسم ولكن ليس في المضمون. وبالتالي فإنها لا تنشيء علاقات مباشرة بل لا بد من تحليل الظرف الذي توجد فيه، ومعرفة المصالح المرتبطة بالشيعي في تلك اللحظة، وبالتالي يمكن معرفة الجهات التي يمكن أن يتكون بينها تحالف. كما تشير إلى أن لكل هوية سياقها الذي تؤثر فيه. فلكل من الهوية المذهبية أطرها التي يمكنها أن تعمل فيها، والتي لا يمكنها الخروج عنها. وإذا ما خرجت فإنها تتحول وتصبح هوية أخرى.
وتحليل أسباب هذا التعدد، وكيفية نشوء "الطائفة" من "المذهب" خارج عن الغرض هنا. ولكن يجب أن يُذكر أن العلاقات النفعية تعتمد على مصالح نفعية بالدرجة الأولى. وأنه يندر للمصالح المعنوية أن تترجم إلى مصالح نفعية؛ وعندما يحصل ذلك فالعلاج هو التجاهل لأن انتباه "الآخر" إلى الهوية هو أهم عامل ديمومة لها. كما إنه من المهم الانتباه إلى أن الشيعة ـ مثلهم مثل أي طائفة ـ ليسوا نسيجاً موحداً، ولا مصالحهم كذلك، وهم في نهاية الأمر سيسعون للتحالف مع أي طرف سيضمن استمرار أو إعادة حقوقهم ومصالحهم. أخيراً إن الجدل الشعبي والمواقف التلقائية من عامة الناس لا تتحول إلى مواقف سياسية بشكل تلقائي، وبالتالي يجب التعامل معها على أنها انفعالات تحتاج إلى تنفيس وإلى توجيه.

التشيع المذهبي استعمل أثناء الحرب العراقية – الإيرانية في أوج فترة تصدير الثورة. فإضافة إلى الخطر العسكري، تمثل الخطر الإيراني في ذهن القيادات آنذاك في تحالفاته الممكنة مع الحركات الإسلامية في الدول العربية. فتم استخدام "التشيع" لخلق نفور شعبي من الشيعة على أمل أن يحد ذلك من نوع التحالفات بين القيادات السنية وبين الشيعة الإيرانيين. فالقلق كان من لقاء (تحالفاً) شيعي – سني من أوطان مختلفة. وفي هذا اللقاء فإن اللعب على وتر الهوية المذهبية يكون معطلاًً.
التشيع الطائفي يُستعمل اليوم في لبنان والعراق عند الحديث عن علاقات سنية ـ شيعية لأن المصالح الاجتماعية والاقتصادية يتم توزيعها وفق الانتماءات المذهبية وليس وفق استحقاقات وأهليات.
ولكن لم يسبق الحديث عن "تشيع تحالفي" إلا من خلال عبارة "هلال شيعي"، والتي لا يمكن أن تنطبق على التشيع المذهبي أو الطائفي. وكما سبقت الإشارة إليه فإن هذا النوع من التشيع لا يوجد إلا في حالة ما يكون بعض الشيعة في حالة من الحرمان والحصار بحيث يجدون في عنائهم المشترك ـ وليس هويتهم ـ أرضية للتحالف؛ ثم يلتفتوا من بعد ذلك إلى هويتهم ليجدوا أنها تقدم لهم خطاباً ووعياً تاريخياً ولغة تخاطب موحدة ويصبح الأمر لدى بعضهم، ولدى بعض مراقبيهم وكأنه نتيجة طبيعة لذلك التوحد، في حين أن الأمر لا يعدو الاشتراك في المصيبة.
وهناك امثلة تاريخية متعددة تدل على أن التوافق المذهبي لم يتحول إلى تحالف سياسي؛ وأن التشيع وحده لا يمكن أن يكون أرضية لأي تحالف، وإن كان أرضية لمنع تحالفات معينة. فمواقف إيران مع الشيعة ـ بل مع المسلمين ـ في الصراعات الروسي/الشيشاني، الروسي/الطاجيكي، الأرمني/الأذربيجاني (وهم شيعة) لم تعتمد على الهوية المشتركة الإسلامية أو الشيعية وإنما على المصالح المباشرة. والأمر نفسه ينطبق على علاقات إيران مع الشيعة العرب، وعلاقاتهم هم أيضاً معها. فعلاقاتها مع شيعة المملكة العربية السعودية، وشيعة الكويت، وشيعة البحرين، وعلاقاتهم بها اعتمدت على شعور الشيعة العرب بالغبن والاضطهاد، وليس على توافق مذهبي أو عقائدي. بل حتى العلاقات مع شيعة لبنان لم تعتمد على توافق مذهبي، بقدر ما اعتمدت على مصالح متبادلة.

لذلك إن ما يحصل اليوم يمكن اعتباره صعود ناس إحدى هوياتهم هي الهوية الشيعية، وليس صعوداً شيعياً، وانتصار حزب الله على إسرائيل هو انتصار للبنانيين ومسلمين وشيعة وليس انتصاراً للشيعة الطائفة. واستعداد بعض الشيعة اليوم للتعاون فيما بينها نتيجة ظرفية لوعيها المشترك بالظلم والاستهداف والحرمان والرفض والحصار؛ وليس نتيجة مطلقة لكونهم شيعة. ونفوذ إيران وعلاقاتها بالشيعة لن تزيد إذا كسب الشيعة في العراق، أو في لبنان، أو في اليمن أو في أي مكان لهم وجود. إنه سيزيد إذا شعروا أنهم مضطهدون، وأنهم محاصرون، وأن العرب من حولهم يتعاملون معهم وكأنهم شيعة أولاً، وعرب ثانياً.
إن الشيء المشترك الوحيد بين الشيعة هي رؤية دينية متوافقة وهذه لا تتحول بذاتها إلى رؤية سياسية مشتركة، ولن توجد "نحن" شيعية بشكل مطلق. وإذا ما وجدت فإننا سنجد أنها رد فعل لـ"هم شيعة". فالوعي الجمعي الشيعي يخلقه الخطاب السني أكثر مما يخلقه الاشتراك المذهبي.
والخلاصة أن مدخل إيران، وتكوّن هلال "شيعي" لن يكون على أساس التشيع وإنما عبر الشعور بالسخط والحرمان والحصار.

وبهذا يمكن الانتقال إلى اليمن.
الوضع في اليمن معقد شديد التعقيد. لتعدد اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، وتقلب دوافعهم واهدافهم. وأيضاً لتعقد التركيبة الاجتماعية والذهنية القبلية. يزيد الأمر تعقيداً حالة الاحتقان الشديد والتي تجعل التحليل يخلط بين الفعل والانفعال. وقد تجلى هذا التعقيد على كثير من التحليلات التي يقرأها المتابع اليمني ويشعر كأنها إسقاطات على اليمن أكثر منها تحليلاً لما يجري فيها.

وقد ظهر الحديث عن تحالف إيراني ـ زيدي في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي. ولكنه أخذ بعداً جديداً مع تصاعد أحداث صعدة الأخيرة.
40-45% من اليمن زيدية. ويوجدون في المناطق الشمالية الجبلية من اليمن. وتشمل مناطق الزيدية قبائل حاشد وبكيل ومذحج. هذه القبائل تمثل قوة أساسية في اليمن، وذات قدرة قوية على مقاومة أي قوة عسكرية كما ظهر ذلك في المواجهة مع العثمانيين، ثم الإمبراطورية البرطانية، ثم القوات الناصرية. لكل ذلك فإن احتمال دخولها ضمن تحالف مع إيران يمثل خطراً على الأطراف المعنية باليمن.

ولكن هذا الاحتمال يتم تكوينه وافتراضه، ولا يعتمد على واقع موجود على الأرض. فإيران لم تكن تملك أرضية قوية بين الزيدية، وذلك لأكثر من سبب أهمها:
أن أكثر القيادات الزيدية الرئيسية ـ السياسية أو العلمية ـ ربطت مصالحها بوضوح إما مع الحكومة في اليمن وإما مع المملكة العربية السعودية، وإما معهما معاً.
من لم يكن كذلك كان يرى أن أي علاقة مع إيران ستخلق أضراراً أكثر من المصالح المتوقعة وغير المؤكدة.
ثم إنها جميعاً كانت لتأكيد هويتها المحلية، واستقلال قراراها. كما كانت تتجنب أن تحالفات يتم النظر إليها على أنها موجهة ضد أطراف محلية أو إقليمية.
أيضاً استُفز الزيدية من محاولات بعض الشيعة التبشير بالمذهب الإثنا عشري في اليمن.
هذا من جهة الزيدية.
وأما من جهة إيران:
فلم تكن ترى الزيدية طرفاً منظماً وقوياً يمكن أن يحقق لها تحالفاً فعالاً. ربما اختلفت الظروف اليوم، ولكن لم يكن هذا بالأمس مما يدل على أن الأمر ذو اعتبارات مصالحية وليس فكرية.

ولفهم العلاقة المحتملة بين الزيدية وبين إيران فيجب النظر بعيداً عن الاشتراك في التشيع وإنما في تفاعل أمرين مع بعضهما البعض:
أولهما: التحولات في الهوية الزيدية جراء الأحداث التي مرت بها تجربة الإمامة.
ثانيهما: التحولات في رؤية الزيدية لـ "رؤية الآخرين" إليهم على ضوء ما جرى في صعدة.

وقبل أن أوضح المقصود بينهما يجب التنويه إلى أن أحداث صعدة لا تشرح أي علاقة بين إيران وبين الزيدية. ومن الخطأ أن ننطلق من توافق الشعار مع شعارات حزب الله أو الإيرانيين وبناء تحليلات سياسية عليها. فالمسألة ما هي إلا تفاعلات معقدة لمحاولة اعتقال حسين الحوثي الذي كان مصمماً على رفع شعار الموت لأمريكا الموت لإسرائيل. هذه المحاولة تحولت إلى مواجهة دامت 80 يوماً، ثم تطورت إلى ساحة لتصفية الحسابات وللمواجهة بين القوى المحلية. فالصراع لم يكن مع مجموعة عقائدية أو مذهبية أو دينية، بل كان بين الجيش وبعض المتطوعين وبين خليط من القبائل والهاشميين ذوي الميول والخلفيات والدوافع المتنوعة والمختلفة والمتضادة أحياناً. وكثير ممن قتل أو سجن لم يكن يعرف حسين الحوثي ولا أفكاره ولا دروسه. لقد تفاعلوا معه البعض من باب الغيرة على من تستهدفهم الحكومة، وتفاعل معه آخرون من باب استغلال الفرصة لمواجهة الحكومة، وتفاعل معه آخرون من باب الخوف على الهاشميين. وتفاعل معه آخرون من باب التعاطف مع والده الشيخ المسن الذي تجاوز الثمانين من عمره، والذي يعد من خيرة الهاشميين وكبار علمائهم. وتفاعل معه آخرون لكونهم لا يملكون خيارات في الحياة بسبب فقرهم المدقع، ويعلم الجميع بأن ما يقرب من نصف الشعب اليمني يعيش تحت خط الفقر، وأن الفقر خير مناخ للحرب والاقتتال.
إن البحث عن العلاقة بين الزيدية وإيران يجب أن يكون في العوامل نفسها التي سبق ذكرها عند الحديث على التشيع التحالفي: الشعور بالسخط والحرمان والحصار.

أولاً: التحولات في الهوية الزيدية:
قامت فكرة الإمامة على تجاوز الطائفية ما أمكنها، يتجلى هذا من نصوص مرجعية مثل قول محمد بن عبد الله النفس الزكية(ت145هـ) حيث: ((أوجب على من قام بهذا لأمر الدعاء لجميع الديانين، وقطع الألقاب التي يدعى بها فرق المصلين، وغلق الأبواب التي في فتح مثلها يكون عليهم التلف، والامساك عمَّا شتت الكلمة، وفرَّق الجماعة، وأغرى بين الناس فيما اختلفوا فيه وصاروا به أحزاباً، والدعاء لطبقات الناس من حيث يعقلون إلى السبيل الذي لا ينكرون وبه يؤلفون، فيتولى بعضهم بعضاً، ويدينون بذلك، فإن اجتماعهم عليه إثبات للحق وإزالة للباطل.)). كما يتجلى من الممارسات التاريخية مثل رؤية الإمام يحيى حميدالدين نحو الخلافة العثمانية، حيث كان يعتبرها مظلة للمسلمين جميعاً، ويؤكد ـ قولاً وفعلاً ـ بأن مقاومته هي للممثلي الخلافة الذين يعيثون في اليمن فساداً، وليس للخلافة. وقد انعكس هذا على تشكيل الزيدية لهويتهم. حيث كان البعد الطائفي فيها ضعيفاً للغاية. يظهر هذا بالنظر إلى التحالف بين الإخوان المسلمين وبين قيادات الزيدية في اغتيال الإمام يحيى، كما يظهر في انخراط الكثير من الزيدية في الحركة الإخوانية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ولكن هذا الأمر أخذ في التحول تدريجياً. فبعد انقلاب/ثورة 1962 ـ والذي كان في الأساس نتيجة تحالف بين يمنيين زيدية وبين عبدالناصر ـ توجهت بعض القيادات الثورية إلى الهاشميين وإلى فكر الزيدية باعتبارهما يمثلان ركني الإمامة عبر 1100 سنة. وكان التركيز في البدء على الهاشميين أكثر منه على الزيدية، كما كانت لغة المواجهة لغة قومية بالدرجة الأولى.
ولكن الأمر أخذ في التحول مع تصاعد التيار السلفي، وسلوكه الذي يصرح بأن القضاء على الزيدية يمثل هدفاً استراتيجياً له، والأهم من هذا هو استخدامه لغة "أهل السنة" و"الروافض" في المواجهة. فبدأت الهوية الزيدية تأخذ شكلاً جديداً. فبعد أن كانت هوية قائمة على المشترك مع الآخرين، هوية آمنة وقائمة على مشروع سياسي يضم أطرافاً متعددة؛ أصبحت هوية تبحث عن ما يميزها عن غيرها، هوية تشعر بالتهديد الشديد، وهوية قائمة على مشروع "صراع البقاء".
هذا التحول أعاد صياغة علاقاتها مع فكرها، ومع قضاياها، ومع من تتعاطف أو تتحالف معهم.
فمن حيث الفكر، بدأت القضايا ذات العلاقة بأهل البيت والإمام علي تأخذ بعداً عاطفياً أشد. وصار تعلُّم الزيدية يكاد يرادف تعلم النصوص التي تؤكد حقوق أهل البيت وإمامة علي. ومن حيث القضايا أصبحت مواجهة السلفية هي القضية الكبرى. ومن حيث التعاطف أو التحالف صارت مبني على الاشتراك في الغبن بقدر ما هو مبني على الاشتراك في المبدأ الإسلامي العام. ولذلك فعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران، تعاطف معها كثير من الزيدية لثلاثة اعتبارات:
أولها: مثلهم مثل أغلب المسلمين في العالم الإسلامي، اعتبروها حركة ثورية ضد نظام جائرٍ، وحركة إسلامية تريد إعادة الدولة الإسلامية.
ثانيها: كونها تتحدث باللغة التي تمثل الشكل الجديد لهوية الزيدية. لغة فيها محبة أهل البيت، والإمام علي، ونحو ذلك.
ثالثها: وأهمها كونهم شعروا أنهم مضطهدون محاصرون وأن لا سبيل أمامهم إلا هذه الدولة التي تتكلم بكلام أهل البيت، وقادتها علماء مجتهدون، وزعيمها من أهل البيت.
وقد أدى ذلك التعاطف إلى محاولات من البعض للتواصل مع إيران ومع الحركات الشيعية الأخرى خصوصاً خليجية والتي جمعهم بها الشعور بالاضطهاد المشترك. ولكنها باءت بالفشل لعدم توافق المصالح.
التحول في هوية الزيدية لم يكتمل بعد لكونه يجد مقاومة النصوص والتجربة الزيدية التي رسخت عبر 11 قرناً.
والشد والجذب بين ما يفرضه الواقع على الزيدية من تحول في الهوية وبين ما تتطلبه الفكرة الزيدية يفسر كثيراً من التجاذبات التي وقعت في الساحة الزيدية.

ثانياً: التحولات في رؤية الزيدية لـ "رؤية الآخرين" إليهم على ضوء ما جرى في صعدة.
يتفاعل الفرد مع غيره وفق مجموعة من الأمور منها: رؤية الفرد للآخر. وأيضاً رؤية الفرد لـ "رؤية الآخر" إليه. فأنا أتعامل مع زيد وفق رؤيتي له، وأيضاً وفق ما احتمله من رؤية زيد لي.
والمتابع للعلاقات الزيدية مع محيطهم يجد أن الرؤيتنين كانتا إيجابيتين. فالمراسلات والرحلات كلها تدل على حالة متوازنة وإيجابية. ولكن هذا الأمر أخذ يتحول، ووصل إلى غايته في أحداث صعدة. الزيدية تقرأ أحداث صعدة من خلال ما حصل فيها (أو ما يعتقدون أنه حصل فيها) ومن خلال رد فعل العالم العربي لذلك.
فهم يرون عنفاً تجاوز جميع الاعتبارات الإنسانية والقانونية. يرون قتل الآلاف من المدنيين والعسكريين، واستخدام أسلحة محرم استعمالها دولياً ضد المدنيين، وتدمير قرى ومنازل بأكملها، وتحريق مزارع وقلع أشجار، وقطع أرزاق وفصل من وظائف، وحرق وتشويه وسحل جثث بعض القتلى في صعدة، واعتقال آلاف منهم أحداث لم يبلغوا سن الرشد القانوني، وملاحقة رمز من رموزها تجاوز الثمانين من عمره، ونعته بأقبح النعوت والأوصاف، وهجوماً إعلامياً على الهاشميين واتهامهم في أنسابهم وفي أعراضهم وانتمائهم وولائهم للوطن وللوحدة اليمنية.
كما يرون أنهم لكونهم الحلقة الأضعف صاروا مسرح الصراع السياسي بين القوى الكبرى في اليمن.
ثم يرون سكوتاً مطبقاً، ما عدا صوت هنا وهناك.
وبقطع النظر عن صحة رؤيتهم، ومدى موافقتها للواقع؛ فإن هذه الرؤية تعيد صياغة ما هو محذور وما هو مقبول.

إن تفاعل تحولات الهوية مع تحولات رؤية الزيدية لأنفسهم ولغيرهم هي التي تخلق المناخ الملائم لعلاقات من نوع آخر مع إيران أو مع قوى أخرى وليس الاشتراك أو التقارب في الفكر .

أخيراً.
1. عندما نتحدث عن الطوائف وعن العلاقات بينها يجب أن نبتعد عن التشابه أو التباين الفكري بينها. العلاقات الجيدة بين الطوائف لا علاقة لها بالتوافق الفكري، والعلاقات السيئة لا علاقة لها بالتباين الفكري. ربما نجد هذا على مستوى العاطفة الفردية البسيطة، وأما على مستوى التأثير الجماعي فعلينا البحث في مكونات ومقومات التكوين الاجتماعي والسياسي للطائفة.
2. الطوائف كائنات اجتماعية/سياسية وليست فكرية. والحديث عنها باعتبارها كائنات فكرية يصرف النظر عن حقيقة ما هي.
3. عندما نتحدث عن المذاهب نحن لا نتحدث عن مدارس فكرية لها رموز علمية وآراء فكرية. نحن نتحدث عن مجتمعات فيها مكوِّن مصالحي وفيها هرمية قيادية.
4. وإذا أردنا تجاوز المشاكل الطائفية فلا بد من:
• تقوية المبادئ الديمقراطية في المجتمعات المسلمة، لأنه بقدر وجود مساحة حرة للتنافس على القوى والمصالح بقدر ما تضعف نطاقات السلطات الأخرى: عشائرية وطائفية.
• تعزيز الاستقلال في التفكير لدى المسلم بإزاء علاقته مع رجل الدين. فعلاقة المسلم مع رجل الدين قد تكون علاقة اعتماد كلي: أي أنا أسأل وهو يجيب. هو يملي وأنا أتبع. في المقابل هناك علاقة اعتماد مبتادل: أي أنا أطرح قضايا وهو يطرح احتمالات. وهو يثير تفكيري في اتجاهات متنوعة وأنا أحاول تبني موقف على ضوء ذلك. فبقدر ما تكون علاقة المسلم مع العالم علاقة اعتماد كلي بقدر ما يكون للسلطة الطائفية تأثير. وبقدر ما تكون العلاقة من نوع الاعتماد المتبادل بقدر ما تقل سلطة الطائفة.
5. فكرة التسامح الطائفي لا تقدم الكثير لأن خطاب التسامح خطاب ديني، في حين أن التكوين الطائفي تكوين اجتماعي، ولا يمكن إزالة المشاكل الاجتماعية إلا بمعالجة جذورها الاجتماعية وليس ببيان التقارب الفكري بين الطوائف.

القصة الكاملة للحوثي والزيدية في اليمن

تقف اليمن مذهولة أمام الحرب الدائرة بين السلطات ورجل الدين المتمرد حسين بدر الدين الحوثي، فالمواجهات خلفت عشرات القتلى والجرحى، في حين يقف أنصار الحوثي في صلابة أمام مختلف أشكال القوة العسكرية والآليات الثقيلة المستخدمة في الحرب ضدهم، مما دفع الدولة -التي يتضاعف حرجها- إلى الإعلان عن مكافأة مالية للقبض عليه تبلغ نحو 45 ألف دولار.


وتثير ظاهرة "الحوثي" في اليمن أكثر من علامة استفهام، فلماذا تفجرت الأحداث في هذا الوقت، وبالتحديد بعد عودة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح من الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة؟ ولماذا كان الرد على الظاهرة بهذه القوة العنيفة، وباستخدام أسلحة ثقيلة كما لو أنها تقاتل قوات مسلحة تابعة لدولة أجنبية؟ وما علاقة الحملة العسكرية ضد الحوثي بالشعار المناهض للولايات المتحدة، الذي دأب هو وأنصاره على رفعه وترديده عقب كل صلاة؟
ولا تتوقف التساؤلات عند هذا الحد؛ فما هو الدور الذي لعبته السلطة والرئيس صالح بالتحديد في بروز الظاهرة؟ ثم ما علاقة جماعة "الشباب المؤمن" بالزيدية؟ وما صحة الاتهامات الموجهة لهذه الجماعة ولبدر الدين الحوثي برعاية تأسيس مذهب جعفري اثني عشري في اليمن؟ وما مستقبل العلاقة بين الرئيس صالح بعلماء الزيدية، بعد أن سال الدم بين قواته ومجاميع تقدم نفسها على أساس مذهبي؟ ثم هل هناك أي علاقة بين الحملة وما أثير مؤخراً بشأن توجه الرئيس صالح إلى نقل السلطة بطريقة وراثية إلى نجله أحمد، وعما إذا كان ذلك التوجه يُقابل برفض واسع في أوساط اليمنيين، وخاصة أنصار المذهب الزيدي، الذين يشدِّد مذهبهم على رفض التوريث في الحكم؟.
تساؤلات شائكة ومتداخلة، تقتضي تسليط الضوء على الشخصية المثيرة للجدل حسين بدر الدين الحوثي، الذي برز اسمه سريعاً من خلال هذه التطوّرات.
يبلغ الحوثي من العمر 45 عاماً تقريباً، وهو من مواليد محافظة صعدة، الواقعة على مسافة 240 كيلومتراً إلى الشمال من العاصمة صنعاء، ووالده بدر الدين الحوثي، أحد أبرز المراجع العلمية للمذهب الزيدي، من فرقة "الجارودية"، القريبة في آرائها من الإمامية، من حيث إنكار إمامة الخلفاء الأُوَل، والقول بإمامة عليّ والحسن والحسين بالنص الخفي من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حد زعمهم.
وسبق أن دخل الحوثي في خلاف شديد مع علماء الزيدية، المناهضين لخط الإمامة الإثني عشرية، وعارض باجتهاداته العلمية بشدة فتوى علماء الزيدية التاريخية، قبل عدة سنوات، والتي وقّع عليها المرجع مجد الدين المؤيدي، والعلماء حمود عباس المؤيد، ومحمد بن محمد المنصور، وأحمد الشامي، عندما أكدوا فيها أن شرط النسب الهاشمي و"البطنين" للإمامة صارت غير مقبولة اليوم، وأنها كانت في ظرفها التاريخي، وأنّ "الرئاسة" وقيادة شؤون الأمة حق من حقوق المواطنين جميعاً، وفيمن يرتضونه، الأمر الذي سبّب له متاعب جمة، أدت إلى هجرة قسرية إلى العاصمة الإيرانية طهران، وظل فيها سنوات، ثم عاد إلى صعدة، بعد وساطات من علماء اليمن مع الرئيس صالح.




الرئيس اليمني اعترف بمسئوليته عن مساعدة تنظيم الحوثي في بدايته وأقر بأنه كان مخطئا في حساباته

يُعرف عن بدر الدين الحوثي الذي يلقب "بالعلامة" في اليمن كلقب ديني، مخالفته لكثير من مراجع الزيدية في اليمن، بالنسبة للموقف من الإمامية الإثني عشرية، وهو يعتقد بالتقارب بين الزيديّة والإمامية الجعفرية، بل يرى الاتفاق بينهما في الأصول المهمة. ويجمع بدر الدين الحوثي بعضاً من المسائل التي اتفق أو تقارب فيها الزيدية والإمامية في كتيبه "الزيدية في اليمن". وعرف الحوثي بمساجلة ومناظرة المخالفين لاجتهاداته، قديما وحديثا عبر مؤلفاته. فساجلهم في العقائد والأصول، محاولا ترسيخ قدم اجتهاداته كمذهب وطريق جديد، وهو يرى عدم الإجماع الذي قال به الدكتور ناجي حسن عند الزيدية على جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
وكان ابنه حسين بدر الدين الحوثي، المتأثر بقوة بأفكار واجتهادات والده، وربما ذهب أبعد منه إلى التأثر بالجعفرية؛ قد أسهم بفعالية مع رموز وشخصيات مثقفة منتمية إلى المربع المسمى بالزيدي بتأسيس "حزب الحق" عام 1990، ونجح في أول انتخابات نيابية عام 1993 عن محافظة صعدة باسم هذا الحزب مع صديقه عبد الله عيظة الرزامي، الذي قتلته القوات الحكومية في حملتها الأخيرة، باعتباره الرجل الثاني في جماعة "الشباب المؤمن".
ولكن سرعان ما دبّ الخلاف داخل حزب الحق في العام الذي أعقب انتهاء حرب صيف 1994، خاصة مع اتهام حسين بدر الدين الحوثي بمناصرة قوات الحزب الاشتراكي اليمني، وهي تهمة لم تتأكد في واقع الأمر، ثم ترك الحوثي وصديقه حزبهما مع آخرين، مع تردد حديث عن خلافات مكتومة داخل "حزب الحق" بشأن مركزية المرجع مجد الدين المؤيدي، الذي تجاوز العقد الثامن، ويمكث في محافظة صعدة متفرغاً للبحث وكتابة الدراسات العلمية لخدمة أتباع مذهبه.
وأياً كان عليه الأمر؛ فقد بدأت تبرز في العام 1997 ظاهرة التحوّل وعملية الاستقطاب المنظم من داخل المربع الزيدي إلى المذهب الإثني عشر (الجعفري) بصورة هادئة.
ويرصد القاضي الشيخ أبو جعفر المبخوت، وهو ممن تحولوا إلى المذهب الجعفري، المراحل الأولى لعملية دخول المذهب الجعفري إلى اليمن بشكل منظم. والشيخ المبخوت من مواليد سنة 1973 في حصن بني سعد من مديرية المطمة، التابعة لمحافظة الجوف اليمنية، وتولى رئاسة فرع "حزب الحق" في محافظة الجوف، ويعتقد أن "ظهور الإمامية في اليمن كان سنة 1997، فهو ظهور حديث، ونسبة الشيعة الإمامية في اليمن تقريبا 20 % من سكان اليمن".
ومنذ عام 1998 نجح المذهب الإمامي في توسيع أرضيته في اليمن مستميلا أبناء الأسر الكبيرة الذين شكلوا أرضية كبيرة للانطلاق والنشاط، فافتتحوا عدة نشاطات يستجلبون بها الأنصار. واسسوا إثر ذلك مكتبة تروج لفكرهم وتوجهاتهم ضمت نحو 4 آلاف كتاب.
ويذهب تقرير أمني قدمه اللواء الدكتور رشاد العليمي وزير الداخلية اليمني إلى أعضاء مجلس النواب اليمني، إلى أن "نشاط حسين بدر الدين الحوثي بدأ منذ عام 1997، بإنشاء مراكز دينية في مديرية حيدان، محافظة صعدة، دون ترخيص قانوني، أطلق عليها اسم الحوزة، ثم امتد نشاطه بإنشاء مراكز مماثلة في بعض المحافظات والمديريات، وقام بتوسيع نشاطه، من خلال تلك المراكز، وتزعّم بطريقة مخالفة للدستور والقانون تنظيماً سرياً انسلخ به عن حزب الحق، أطلق عليه اسم الشباب المؤمن، ومنح أعضاء التنظيم مرتبات فصلية، وبعضهم شهرية، تراوحت ما بين 50 دولاراً إلى 100 دولار شهرياً، مقابل قيامهم بالترويج لأفكاره وآرائه المتطرفة، واقتحام المساجد، والاعتداء على خطبائها، الذين لا يتفقون مع أفكاره المتطرفة، وإثارة الشغب بين المصلين، وترديد شعارات مضللة، خاصة أثناء صلاة الجمعة" وأضاف أن التهم التي أوردها بتقريره ثابتة من خلال محاضر وتسجيلات سيتم تسليمها للأجهزة القضائية.
واتهم التقرير الأمني حسين بدر الدين الحوثي بتوزيع كتاب بعنوان "عصر الظهور"، وهو كتاب شيعي لمؤلفه علي الكوراني العاملي، الذي أشار في مقدمة طبعته السابعة، مطلع العام الهجري الماضي 1424، إلى أنه "بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران؛ ارتفع مؤشر الاهتمام بعقيدة المهدي المنتظر في شعوب العالم الإسلامي، بالسؤال عنه، والحديث حوله، والقراءة، والتأليف، بل وبين غير المسلمين أيضاً".
ويعتبر هذا الكتاب أن أكبر حدث سياسي يشير إلى تنامي الاهتمام بعقيدة المهدي المنتظر هو فتنة جهيمان في الحرم الشريف، الذي نادى بالمهدي، ويخصص الكتاب محوراً خاصاً عن اليمن تحت عنوان "اليمن ودورها في عصر الظهور"، من ص 143 وما بعدها، يؤكد فيه ورود أحاديث متعددة عن أهل البيت، تؤكد حتمية حدوث ما يصفه الكتاب بـ"ثورة اليمن الإسلامية الممهدة للمهدي عليه السلام، وأنها أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق". أما قائدها المعروف في الروايات التي أوردها الكتاب باسم "اليماني"؛ فتذكر رواية أن اسمه حسن أو حسين، من ذرية زيد بن علي، عليهما السلام. ويستشهد الكتاب ببعض الروايات التي تؤكد أن "اليماني" يخرج من قرية يقال لها "كرعة"، وهي قرية في منطقة بني خَوْلان، قرب صعدة.
ثم يثير الكاتب تساؤلاً عن السبب في أن ثورة اليماني ورايته أهدى من ثورة الإيرانيين ورايتهم؛ فيقول "المرجح أن يكون السبب الأساسي في أن ثورة اليماني أهدى؛ أنها تحظى بشرف التوجيه المباشر من الإمام المهدي عليه السلام، وتكون جزءاً مباشراً من خطة حركته، وأنّ اليماني يتشرف بلقائه ويأخذ توجيهه منه". ويؤيد ذلك، بحسب الكتاب؛ أن أحاديث ثورة اليمانيين تركز على مدح شخص اليماني قائد الثورة، وأنه "يهدي إلى الحق، ويدعو إلى صاحبكم، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو إلى النار".
ويؤكد التقرير الأمني، بحسب زعمه؛ أن الأجهزة قد ضبطت مع أحد أنصار الحوثي، ويُدعى فارس مسفر سالم من أهالي ساقين بصعدة؛ وثيقة مبايعة للحوثي، باعتباره الإمام والمهدي المنتظر، جاء فيها "اُشهد الله على أن سيدي حسين بدر الدين هو حجة الله في أرضه في هذا الزمان، واُشهد الله على أن أبايعه على السمع والطاعة والتسليم، وأنا مقر بولايته، وأني سلم لمن سالمه، وحرب لمن حاربه، وهو المهدي المنتظر القائم، الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، أبان لنا طريق النجاة، وأوضح كتاب الله على أوضح بيان، فنسأل الله أن يحشرنا في زمرته".



وقد اعترف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بأنه يتحمل مسئولية عن إيجاد تنظيم "الشباب المؤمن"، الذي يتزعمه حسين الحوثي، حيث تساهل مع تقارير استخباراتية وردت عن الجماعة، معتقدا أنها "فورة شباب" ما تلبث أن تزول. ولكنه حسب خطاب ألقاه الأحد الماضي أكد أنه كان ثمة خطأ في حساباته.
ويعترف الرئيس صالح بأنه دعم وساند هذه التجمعات. وقال "صحيح لقد جاءنا مجموعة من الإخوان وقالوا هؤلاء شباب مؤمن معتدل، لا يريدون أن يكون لهم ارتباط خارجي مع قيادة خارجية، ويريدون دعم الدولة، حتى يبتعدوا عن الارتباط والتبعية الخارجية، وفعلاً نالوا الدعم، على أساس أنهم شباب مؤمن".
واعتبر مراقبون أن الدعم المالي والمعنوي، الذي قدمه رئيس الدولة لمجموعات حسين الحوثي، جاء في ظل توتر حاد داخل البلاد، إثر تغيّر اصطفاف القوى السياسية الحزبية على أساس مطلبي، وتجاوز المربع الإيديولوجي، الذي وسم المراحل الماضية، وخاصة بين التجمع اليمني للإصلاح، المعبر عن الحركة الإسلامية اليمنية، والحزب الاشتراكي اليمني وبقية التنظيمات القومية. وقد ظنت السلطات، على ما يبدو، أنها بدعمها لهذه القوة الجديدة؛ ستعيد مرة ثانية خلط الأوراق، فتحدث توازن قوى لصالح السلطة، في ظل تصاعد الحديث آنئذ عن توريث منصب الرئيس، وكان الرئيس صالح بحاجة إلى دعم المراجع العلمية الزيدية والسنية، لتقف إلى جانب الترتيبات المقبلة على قمة هرم السلطة في اليمن، فجاء الدعم على هذا الأساس، خاصة وأنّ المذهب الزيدي يرفض في أدبياته بشدة مبدأ التوريث، فدار همس منذ العام 2001 عن اتفاق مع عدد من علماء الزيدية على قضايا ربما بينها مسألة توريث الحكم.
وتعتقد أوساط زيدية لها خلاف مع حسين بدر الدين الحوثي "أنّ المعطيات والمعلومات المتوفرة تؤكد أن القضية بدأت منذ أكثر من عام، أو عام ونصف العام، عندما توجه حسين بدر الدين الحوثي، عضو مجلس النواب سابقاً، إلى منطقته ومنزله في جبل مران، مديرية حيدان، محافظة صعدة، وانقطع في تلك المنطقة يدرس العلوم الدينية، ويؤلف الكتب، التي ربما اختلف في بعضها مع بعض آراء علماء المذهب الزيدي، وهذا هو حال المذهب الزيدي، الذي فتح باب الاجتهاد دون الإخلال بالثوابت الإسلامية".
وتضيف تلك الأوساط "مع مرور الأيام، وتصاعد الأحداث في العراق وفلسطين، وأمام زيادة الدور الأمريكي في المنطقة؛ رأى حسين بدر الدين الحوثي أن أقل الواجب أمام ذلك هو إعلان البراءة من الأمريكيين والإسرائيليين، فاقتنع بذلك طلابه ومحبوه، وبدأوا يعلنون براءتهم من أمريكا وإسرائيل عبر رفع شعار: الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام".
أخذ هذا الشعار، الذي رفعه حسين بدر الدين الحوثي بالانتشار، فقام بعضهم بكتابته على الجدران في محافظة صعدة، وقام آخرون بطباعته في ملصقات للإعلان عن الرفض للسياسة الأمريكية، وتم الاستمرار في هذا النهج، الذي تزامن مع خطابات الرئيس اليمني، التي أعلن فيها أن الإرهاب الإسرائيلي هو أكبر إرهاب في العالم، وأنّ أمريكا تدعم هذا الإرهاب".
وظلت هذه الشعارات قائمة، وبحسب الأوساط الزيدية، "ليجد هؤلاء الشباب أنفسهم فجأة، وبدون مقدمات، أيضاً في السجون ومطاردين، بعد أن بدأت هذه الحملة في محافظة صعدة، عبر توجيهات المحافظ يحيى العمري، باعتقال كل شاب أو طفل يرفع هذا الشعار، وتوجيهاته بإيقاف مرتب أي موظف في المحافظة يرفع هذا الشعار، مما أدى إلى إيقاف مرتبات أكثر من 60 مدرساً في محافظة صعدة، رغم أدائهم لواجبهم الوظيفي.
واستمرت هذه الحملة من المحافظ، حسب ما تقول المصادر، واستغلت لتصفية أغراض شخصية، وقام بعض المسئولين برفع تقارير إلى الرئيس، تكيد لهؤلاء الطلبة ولأستاذهم وشيخهم حسين بدر الدين الحوثي. وأعلن المحافظ عن توجهات لاستئصال شأفة هذه الفئة الزيدية، وقال إنه سيزج بهم في السجون، وسيعيدهم إلى موطنهم الأصلي، الذي جاؤوا منه قبل 1200 عام، بل ووصل الحد إلى سب أئمة آل البيت عليهم السلام، ليصل الأمر إلى التهكم على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كما تنقل هذه المصادر.



وتشير تلك الأوساط الإعلامية الزيدية إلى دور وتأثير التقارير المحرضة ضد المذهب الزيدي، وإلى الكتابات الخاصة بالتوريث، وما أدت إليه من تعبئة عند الرئيس صالح، ضد حسين بدر الدين الحوثي، وجميع أتباع المذهب الزيدي. وقالت "تحرّك البعض إلى حسين بدر الدين الحوثي لإقناعه بوقف استعمال الشعارات التي فهمت بشكل خاطئ، وتم إبرازها باعتبارها تحريضا على أعمال إرهابية، وقالوا إن بعض التقارير صورت للرئيس أن الحوثي يتآمر ضد البلد ويستعدي أمريكا ضدها، وهو ما أكدوا أنه لم يحصل.
وأضافت المصادر أن الممارسات التي اتخذت ضد مجموعة الحوثي سواء على مستوى الدولة أو المحافظة هدفت بصورة خاصة إلى تخفيف الضغط على الاتجاه السلفي "القاعدي" عبر افتعال معركة مع المذهب الزيدي.
وتفسر الأوساط الإعلامية الزيدية الحملة العسكرية ضد الحوثي بأنها تسعى إلى تحقيق الوصول إلى هدفين اثنين، أولهما "الوصول إلى ضرب المذهب الزيدي، من خلال افتعال معركة، يتم خلالها الوصول إلى إغلاق مراكز تدريس المذهب الزيدي. والثاني محاولة شق الصف الوطني، عبر إثارة نعرات عنصرية، واتهامات مغرضة، تستعدي فئة من الشعب اليمني، وذلك لتفريق الناس عن الرئيس، وإيجاد عداوات، لا وجود لها أساساً، وأنّ أفضل طريق للوصول إلى الحكم فيما بعد، وقطع الطريق على احتمالات ترشيح العقيد أحمد علي عبد الله صالح لنفسه لأية انتخابات رئاسية في المستقبل، عبر صناديق الاقتراع؛ هو افتعال المعارك والعداوات، وشق الصف الوطني، وإثارة النعرات العنصرية والتفرقة المذهبية، وهذا ما أراده المغرضون، الذين زوّروا كثيراً من المعلومات، التي رفعوها للرئيس، والتي أرادوا، عبر تزويرهم، إظهار الزيدية وكأنهم متمردون على النظام وعلى الجمهورية، وأنهم يسعون إلى إعادة الملكية"، على حد تعبير الأوساط.
وتذهب الأوساط الإعلامية الزيدية بعيداً إلى التفسير التآمري لأحداث صعدة، إذ تقول "أراد البعض أن يصلوا إلى توجيه حملة عسكرية لأغراض معروفة، وخططوا لإخراج هذه الحملة، فأظهروا أولاً للعلماء في صنعاء أن هنالك نية لضرب المذهب الزيدي، وأنه ربما يتم تحريك مجموعات عسكرية لقتل حسين بدر الدين الحوثي، وأنّ أفضل طريقة لحقن دم حسين بدر الدين الحوثي، ووقف أية حملة لضرب المذهب الزيدي، هو إصدار بيان يظهر فيه العلماء استنكارهم لآراء حسين بدر الدين الحوثي، وبذلك يحقنون دمه، ويوقفون أي محاولة لضرب المذهب الزيدي، هذه كانت الخطوة الأولى، والخطوة الثانية هي عرقلة وصول حسين بدر الدين الحوثي إلى الرئيس، بعد أن كان قد بعث برسالة موجهة للرئيس، أبدى فيها استعداده للوصول إليه، وأعلن فيها إخلاصه له، وولاءه للوطن، وأنه لا يمكن أن يظهر منه ما يخل بالنظام، أو أي استعداء للدولة أو الجمهورية، إذ كانت الخطوة الثانية هي عرقلة وصوله إلى الرئيس، واتخاذ التدابير لإبقائه في جبل مران. أما الخطوة الثالثة فتحريك الحملة العسكرية، وعرقلة أي مجموعة أو شخصيات من الوصول إلى الحوثي، لكي تبدأ الحملة بضربتها، عبر استخدام الدبابات والمدفعية وصواريخ الكاتيوشا والطائرات".



تظل هناك مساحة واسعة مسكوت عنها في هذه الزوبعة، التي قد تصبح من أخطر أحداث اليمن المعاصر، في عهد الرئيس علي عبد الله صالح. وثمة همس ومعلومات وتسريبات لا ترقى إلى الاعتماد عليها، وربما تكون وسيلة لتشويه الخصم، وتبرير الحرب الناشبة في صعدة ضد الحوثي وأنصاره. تقول تلك التسريبات إن السلطات الحكومية حصلت على وثائق تدين حسين بدر الدين ومجموعته المسماة "الشباب المؤمن"، وأنّ تلك الوثائق تم استخراجها من مكتبته بطريقة سرية، عبر أحد الأشخاص المزروعين. وحسب الرواية؛ تثبت تلك الوثائق أن ثمة قيادة سرية هي "الشرعية" لدى جماعات تؤمن بخط الحوثي، وأنّ ثمة تسلسلا قياديا في أوساطهم، يدير أوضاع الأتباع، ويوكل أمر تحصيل الزكاة إليها، اعتمادا على مبدأ التقية.