الأربعاء، 25 فبراير 2009

من احكام الامامة عند الزيدية

الجزء الثاني

(للزيدية في مسألة نصب الإمام تفصيل، فهم يعتبرون الإمامة في علي والحسنين بالنص على تفصيل في ذلك. أما إمامة غيرهم فتتم بطريقين:
1: الدعوة، وذلك بأن يدعو من اكتملت فيه الشروط إلى نفسه، ويقدم للأمة برنامجاً (الدعوة العامة) يوضح فيه طبيعة دعوته ومقاصدها، شريطة أن لا يكون ذلك في ظل وجود إمام شرعي سابق.
2: الاختيار، وذلك بأن يرشح أهل الحل والعقد من يرونه صالحاً لهذا المنصب ويبايعوه إن وافق على ذلك
والجدير بالتنبيه هنا أن طبيعة المذهب الزيدي القائمة على التجديد والاجتهاد لا تمانع من ابتكار أسالب جديدة ما دامت تهدف إلى تحقيق مصلحة الأمة واستقرارها.
والعبرة عند الزيدية بصلاحية الإمام للقيام بما أوكل إليه بغض النظر عن عدد المبايعين له، يقول الإمام القاسم بن إبراهيم (ت 246هـ): "اعلم أن الإمامة إنما تثبت لمن ثبتت له بالله وحده وبما جعلها تجب به من كمال الكامل، المطيق لها بالعلم غير الجاهل، فمن كان في العلم كاملاً، ولم يكن بما يحتاج إليه في الدين جاهلاً، فعلى المسلمين العقد له والرضى به، ولو لم يكن العاقد له إلا واحداً كان عقده عقداً، إلا أن العقد إنما يجب له بنفسه وكماله، وبما وصفنا من حاله، فإذا تمت حاله، ورضيت أفعاله، فعلى كل واحد التسليم له والرضى به
وعن الإمام أحمد بن عيسى بن زيد (ت247هـ) أنه قال: "ليس للأمة أن يؤثروا رجلاً يولوه فيجعلوه إماماً قبل أن ينظروا في الكتاب والسنة، فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله ولَّوه عليهم لفضله عليهم في الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله كانت لهم الشورى من بعد ذلك فيما وافق الكتاب والسنة[1]"
وعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي (260هـ) أنه قال: لو أن رجلاً مستوراً عالماً بالكتاب والسنة، عالماً بظاهر الأحكام التي يحتاج الناس إليها من الفرائض والطلاق والإيلاء وغير ذلك من الحدود صلح هذا الأمر له)[2]
وإذا تزامنت دعوة إمامين في قُطر رجح الأكمل، فإن تساويا فالأسبق، فإن لم يُعلم دُعيا للمناظرة بحضرة كبار العلماء وأهل السياسة والتجربة، فمن رجحت كفته وتفوق على منافسه نصبوه إماماً. وهذه طريقة راقية لتجاوز النزاع والوصول إلى الأصلح للأمة.

صفة الإمام

يلخص الإمام القاسم الرّسي صفة الإمام من أهل البيت (ع (بقوله:(وإنما صِفَةُ الإمام، الحَسَنُ في مَذهَبِه، الزَّاهِدُ فِي الدّنيا، العَالِم فِي نَفسِه، بِالمؤمنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم ، يَأخذُ عَلى يَدِ الظَّالِم، وَينصُرُ المَظلوم ، وَيُفَرِّجُ عَن الضّعِيف، وَيَكُونُ لِليَتِيم كَالأبِ الرّحِيم، ولَلأرمَلَة كَالزّوج العَطُوف، يُعَادِي القَريب فِي ذَاتِ الله، ويُوالي البَعيد فِي ذَاتِ الله، لا يَبخَلُ بِشَيء مِمَّا عِندَه مِمَّا تَحتَاجُ إليهِ الأمّة، مَنَ أتَاهُ مِن مُسْتَرشِدٍ أرْشَدَه ، ومَن أتَاهُ مٌتَعَلّمِاً عَلَّمَه ، يَدعُو النَّاسَ مُجتَهِداً إلى طَاعَةِ الله، ويُبَصِّرَهُم عُيوبُ مَا فِيهِ غَيهم، ويُرَغِّبَهُم فِيمَا عِندَ الله، لا يَحتَجِبُ عَن مَن طَلَبَه، فَهُو مِن نَفسِه فِي تَعَبٍ مِن شِدَّة الاجتهَاد ، وَ النَّاسُ مِنهُ فِي أَدَبٍ، فَمَثلُه كَمَثَلِ المَاءِ الذي هُوَ حَياةُ كُلِّ شَيء، حَيَاتُهُ تَمضِي، وَعِلمُه يَبقَى، يُصَدِّقُ فِعْلُه قَولَه، يَغرِفُ مِنهُ الخاصُّ والعَام، لا يُنكِرُ فَضلَهُ مَن خَالَفَه، ولا يَجحَدُ عِلمَه مَن خَالَطَه، كِتابُ الله شَاهِدٌ لَه ومُصَدِّقٌ لَه، وفِعلُه مٌصَدِّقٌ لِدَعْواه)[3]
(ومن كان على غير ماشرحنا،من آل الرسول صلى الله عليه وعلى آله،فنكث عليهم،وأساء في فعله إليهم،ومنعهم من حقهم الذي جعله الله لهم،واستأثر بفيهم،وأظهر الفساد والمنكر في ناديهم،وصير مالهم دولة بين عدوهم يتقوى به عليهم،ولم يقبضه منهم،ويقسمه على صغيرهم وكبيرهم،وكانت همته كنز الأموال،والاصطناع لفسقة الرجال،ولم يزوج أعزابهم،ولم يقض غراماتهم،ولم يكس الظهور العارية،ولم يشبع منهم البطون الجائعة،ولم ينف عنهم فقراً،ولم يصلح لهم من شأنهم أمراً،فليس يجب على الأمة طاعته،ولاتجب عليهم موالاته،ولاتحل لهم معاونته،ولاتجوز لهم نصرته،بل يحرم عليهم القيام معه ومكاتفته،ولايسعهم الإقرار بحكمه،بل يكونوا شركاه إن رضوا بذلك من أفعاله ويكونوا عند الله مذمومين،ولعذابه مستوجبين،فنعوذ بالله من الرضاء بقضاء الظالمين،ونعوذ به من الإعراض عن جهاد الفاسقين،الذين لايأمرون بالمعروف ولاينهون عن المنكر،فإن من أعرض عن جهادهم فقد برئ من الله وبرئ الله منه،وبعد عن حزب الرحمن،وصار من حزب الشيطان)[4]
(يفترض أن تقوم علاقة الإمام بالأمة على حسن التعامل والأداء، بحيث يكون الإمام كالأب الحنون وتكون الرعية كالأبناء البررة، وفي ذلك قال الإمام أحمد بن عيسى بن زيد: "ليس للإمام أن ينتقص الرعية حقها، ولا للرعية أن تنتقص حق إمامها، فمن حق الرعية على إمامها: إقامة كتاب الله وسنة نبيه فيها، والعدل في أحكامها، والتسوية بينها في قسمها، والأخذ لمظلومها من ظالمها، ولضعيفها من قويها، ولوضيعها من شريفها، ولمحقها من مبطلها، والعناية بأمر صغيرها وكبيرها، ولينفذ لمعاشها في دنياها ومصلحتها في دينها، وعمومها بالحنين عليها والرأفة والرحمة لها، كالأب الرؤوف الرحيم بولده المتعطف عليهم بجهده، الكالي لهم بعينه ونفسه، يجنبهم المراتع الوبية، ويوردهم المناهل الروية العذبة، فإن الله سبحانه حمد ذلك من أخلاق نبيه عليه السلام، فقال جل وعلا: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾(التوبة/128). فإذا فعل ذلك الوالي برعيته كان حقاً على الرعية: كرامته، وتعظيمه، وإجلاله، وتبجيله، وبره، وتفضيله، ومكافأته، ومعاونته، وطاعته، ومؤازرته، والاستقامة ما استقام على كتاب الله وسنة نبيه، فإن خالف ذلك إلى غيره من التسلط بالجبرتة، والتكبر عليهم، فمنعهم حقهم، واستأثر عليهم بفيئهم، فلا طاعة له عليهم في معصية خالقهم، وحرمت عليه إمامتهم وولايتهم، وحرمت عليهم طاعته ومعاونته، وكان حق الله عليهم مجاهدته حتى يفيء إلى أمر الله أو يعتزل ولاية أمره، فإنه لا ولاية لمن لم يحكم بما أنزل الله[5]"

عزل الإمام

ويروي الطبري أن الإمام المهدي النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن لمااستولى على المدينة،خطب فيهم قائلاً:(أما بعد أيها الناس فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر المنصور مالم يخف عليكم من بنائه القبة الخضراء التي بناها تصغيراً للكعبة،وإنما أخذ الله فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى،وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين والأنصار الموالين،اللهم انهم أحلوا حرامك وحرموا حلالك وأمنوا من أخفت وأخافوا من أمنت ...أيها الناس والله ماخرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولاشدة ولكني اخترتكم لنفسي،والله ماجئت وفي الأرض مصر يعبد الله فيه الا وقد أخذ لي فيه البيعة)[6] وهذه الخطبة تلخص موقف الزيدية من السلطة ومصدر الشرعية لها والغاية من وجودها،وكيفية التعامل معها عندإنحرافها،فالموقف من السلطة ومظالمها، هو المميز للزيدية عن أهل السنة والجماعة والشيعة والإمامية،
أما عزل الإمام فقد ذكر فقهاء الزيدية أنه يُعزل عند ثلاثة أنواع من الأسباب هي:
* اختلال شروط يزول معها التمكن من القيام بما نصب لأجله، كالجنون، وبطلان بعض حواسه المحتاج إليها كالبصر والسمع، والمرض المقعد، فمتى صار كذلك خرج عن كونه إماماً ولا يحتاج إلى من يخرجه.
* اختلال شروط لا يزول معها التمكن من القيام بمهامه، كالفسق، وهو نوعان: باطن، أو ظاهر، إن كان باطناً لم ينحلّ به عقد الإمامة، لأن الحكم عليه مجرد ظن وتخمين. وإن كان ظاهراً، بطل كونه إماماً.
* التقصير في أداء مهامه، كالملل والانشغال ولو بالعبادة وإصلاح شئونه الخاصة[7]. ويروى عن الهادي(ع) قوله إذا تميز الحاكم على أفقر رعاياه في المأكل أو الملبس فقد وجب الخروج عليه،وللإمام علي(ع)قول مشهور:كيف أكون أميراً للمؤمنيين ولاأشاركهم شظف العيش!!!)ويؤثر عنه قوله أن على الإمام أن يقدر عيشه بضعفة الناس حتى لايتهيأ الغني بغناه ولاي
وينقل العلامة الشامي عن الإمام الهادي قوله: (من أعان ظالماً ولو بخط حرف أو برفع دواة ووضعها، ولم يكن اضطرته على لك مخافة على نفسه، لقي الله يوم القيامة وهو معرض عنه غضبان عليه، ومن غضب الله عليه فالنار مأواه والجحيم مثواه، أما أني لا أقول إن ذلك في أحد دون أحد من الظالمين، بل أقول إنه لا يجوز معاونة ظالم ولا معاضدته ولا منفعته ولا خدمته، كائناً من كان (من آل رسول الله أو من غيرهم)، كل ظالم ملعون، وكل معين لظالم ملعون، وفي ذلك ما بلغنا عن سول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جبا درهماً لإمام جائر كبه الله في النار على منخريه) وفي ذلك ما يقال (إن المعين للظالم كالمعين لفرعون على موسى....الخ).
وفي نص له آخر يقول عن حكم ما في أيدي الظلمة وأعوانهم: (إذا ظهر إمام الحق على أئمة الجور أخذ كل ما في أيديهم ولهم من قليل وكثير ودقيق وجليل عرض أو غيره، وأما ما كان سوى ذلك من الضياع والأموال وغير ذلك مما استحدثوه في سلطانهم، فيؤخذ كله مما استحدثوه في أموال الله، وما استحدثوا في السلطة من غير ذلك من غلات إن كانت لهم من قبل سلطتهم، لأن ما استهلكوه من أموال الله أكثر مما يؤخذ منهم، وكذلك الحكم في اتباعهم وأهل معاونتهم على ظلمهم الخ....)[8]

حكم مخالف الإمام

(يذكر فقهاء الزيدية أن من حق المعنيين ببيعة الإمام أن يتأكدوا من صلاحيته حتى لو كلف الأمر أن يمتحنوه بأسئلة أو مواقف ذات علاقة؛ لمعرفة مدى استيفائه الشروط المعتبرة. وإذا لم يقتنع أحد فلا يجبر على البيعة ولا تلزمه الطاعة، غير أنه يُمنع من الإفساد على الإمام بالتحريض على العصيان والتمرد، وليس له أن يطالب الإمام بقبول رأيه ومشورته، لأنه اختار المفارقة.. هذا على مستوى النظرية، أما التطبيق فقد اختلفت مواقف علماء الزيدية تجاه منكر إمامة الإمام، فمنهم من شدد الحكم عليه فجزم بفسقه، واعتزل الصلاة خلفه، ومنهم من تسامح في ذلك وأوكله إلى اجتهاده، وقد عكس صورة ذلك الخلاف طرف من الحوار الذي دار بين الإمام عز الدين بن الحسن وعلماء عصره ـ وأشرنا إليه سابقاً ـ وخلاصته أن الإمام عز الدين شنع على المفسقين لنافي الإمامة، واستنكر ما ظهر في زمانه من تجاوز في ذلك فقال: " والعجب مما ظهر في زماننا من تجاسر غير العارفين - من المثبتين للإمامة - على تفسيق النافي لها أو المتوقف، ولعنه واعتزال الصلاة خلفه، مع أن التفسيق لا يصح الأخذ فيه والإثبات له إلا بالبرهان القاطع، الذي لا مانع له ولا مدافع، من كتاب صريح، أو خبر متواتر صحيح، أو إجماع قطعي". وذكر أن الظاهر عن أكثر أئمتنا وعلمائنا القول بعدم التفسيق، وأنه لو سلم قطعية المسألة، فإنه لا يجوز التكفير والتفسيق فيها؛ لأنه لا يثبت كون المعصية كبيرة إلا بدليل.
ورد عليه العلامة عبد الله النجري فأكد فسق النافي قياسا على تفسيق المحارب للإمام بيده ولسانه. فأجاب عنه الإمام بأن ذلك قياس مختل؛ لوجود الفارق بين الأصل والفرع.
أما العلامة علي بن محمد البكري فمال إلى حجة الإمام في عدم التفسيق ورجحه. وكذلك السيد صارم الدين الوزير أيد كلام الإمام، وحكم بأن سكوت العلماء عن النكير عند سماع التكفير أو التفسيق حرام.)[9]

النص على الإمام علي والحكم على من تقدم عليه

قال العلامة علي بن الحسين الزيدي في (المحيط بالإمامة)[10] وذهبت الزيدية والإمامية إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على علي عليه السلام نصا لم يعلم السامعون منه مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة ولا من بعدهم، وإنما يُعرف مراده بالاستدلال، وذلك كخبر الغدير وخبر المنزلة. واختلفوا في النص الجلي عليه فلم يثبته الزيدية، و ادعى جلاءه الإمامية وقالوا إن من سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم ضرورة أن مراده به الإمامة.
قال السيد صارم الدين الوزير (914هـ) في (الفصول)[11]: النص الخفي هو: الدال على معنى لا يحتمل غيره بالنظر، لا بضرورة الوضع. ومنه الدليل على إمامة الوصي عليه السلام، عند (جمهور أئمتنا) وعلق السيد صلاح بن أحمد المهدي (1044هـ) على هذا الكلام في (شرحه على الفصول[12]) بقوله: "لأنه لو كان جلياً لعلمه الناس كلهم، ولتوفرت الدواعي إلى نقله؛ لأنه من مهمات الدين كالصلاة والزكاة والحج ونحوها، ولما خفي على أبي بكر وقال بحضرة الجماعة: وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر فيمن هو فلا أنازعه. وهذه النصوص ـ يعني حديث الغدير وحديث المنزلة ـ تحتمل غير ظاهرها؛ لأن لفظ مولى مشترك، وكذلك ولي، وكذلك ليس في خبر المنزلة تصريح بالإمامة. قالوا: فإذا كان كذلك حكمنا بأنه خفي وقطعنا بدلالته على الإمامة؛ لأن احتمالات غير الإمامة لا تقاوم دلالته عليها، فعند هؤلاء أنه من الخفي".

ومثل هذا قال الإمام يحيى بن حمزة (ت749هـ) في (الانتصار[13])

وقال الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني (420 هـ) : " فإن قيل: فما حكم من خالف هذه النصوص الدالة على لإمامة أمير المؤمنين هل يفسق قيل له إنه يكون مخطئا غير كافر ولا فاسق فلو كانوا فساقا لما أولاهم أمير المؤمنين الذكر الجميل"[14]
وقال الإمام عبد الله بن حمزة : " إن النصوص ـ الواردة في حق علي ـ استدلالية؛ لأنها محتملة، ولذلك جرى فيها النزاع الطويل والجدال الشديد من ذلك اليوم إلى يوم الناس هذا وإلى انقطاع التكليف وكل يحتج بما له وجه"[15]
وقال الأمير الحسين بن بدر الدين في (الشفاء) [16]: "الذي نختاره أن النص وقع على وجه يحتاج في معرفة المراد به إلى تأمل، ولا نكفر من دافعه ولا نفسقه، ونقطع على تخطئة من تقدمه".
وذكر الهادي بن إبراهيم الوزير عن الإمام المهدي علي بن محمد بن علي (773 هـ) أنَّه سُئل عمن تقدم أمير المؤمنين أو خالفه، فأجابَ : أنَّ مذهب جمهور الزيدية أنَّ النص وقع على وجه يحتاج في معرفة المراد به إلى نظر وتأويل، ولا يكفرون من دافعه ولا يفسِّقونه"[17].
وحكى هذا المذهب عن الزيدية ابن خلدون في (المقدمة)[18] فقال: "ومن الشيعة من يقول: إن هذه الأدلة إنما اقتضت تعيين علي بالوصف لا بالشخص والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه، وهؤلاء هم الزيدية، ولا يتبرؤون من الشيخين ولا يغمضون في إمامتهما مع قولهم بأن علياً أفضل منهما لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل".
وقال العلامة الديلمي : "الصحيح عندنا أن تلك النصوص خفية لا يعلم المراد بها إلا بضرب من الاستدلال، فلا يكون الصارف لها عن الإمامة إلى غيرها مما يحتمل لفظ ذلك النص راداً لما علمه ضروري من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يستحق بذلك الكفر ولا الفسق، إذ لا دلالة تدل على استحقاقه ذلك" [19].
ونتيجة لهذه الرؤية لم يعرف عنهم تجريح فيمن تقدم علياً من الخلفاء، لاحتمال أنهم لم يعلموا النص، أو لم يفقهوه. وفي ذلك يقول الإمام القاسم بن محمد (1029هـ) في (الأساس)[20] "والحق أنهم إن لم يعلموا استحقاقه دونهم بعد التحري فلا إثم عليهم .. وإن علموا فخطيئتهم كبيرة.. ثم قال: ولعل توقف كثير من أئمتنا لعدم العلم بأنهم علموا أو جهلوا".
وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (840هـ) في (القلائد)[21] " مسألة: المحققون من الزيدية وخطأ المتقدمين على علي في الخلافة قطعي؛ لمخالفتهم القطعي، ولا يقطع بفسقهم إذ لم يفعلوه تمرداً بل لشبهة. قلت: فلا تمتنع الترضية عليهم لتقدم القطع بإيمانهم فلا يبطل بالشك فيه"
وقال الإمام عز الدين بن الحسن (ت900 هـ): "أما أكثر أئمتنا وعلمائنا فالظاهر عنهم القول بعدم التفسيق ـ يعني لمن نفى إمامة الإمام ـ ولهذا نُقِلَ عنهم حسن الثناء على المشايخ المتقدمين على أمير المؤمنين علي عليه السلام، والترضية عنهم والتعظيم العظيم لهم"[22]
وأقل أحوال الكثيرين من أئمة الزيدية التوقف في الحكم على من تقدم علياً، فعن الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين ( ت 411 هـ ) أنه قال : "ما أعلم أن أحداً من العترة يسب الصحابة، ومن قال ذلك فقد كذب"[23]
وسئل الإمام عبد الله بن حمزة (ت614هـ) عن الصحابة الذين تقدموا علياً فقال: " لنا أئمة نرجع إليهم في أمور ديننا ونقدم حيث أقدموا، ونحجم حيث أحجموا، وهم علي وولداه عليهم السلام، والحادث عليهم وغضبنا فيهم، ولم نعلم أحدا منهم سب أحداً من الصحابة ولا لعنه ولا شتمه لا في مدة حياتهم ولا بعد وفاتهم. ثم تحدث عن موقفهم من أهل البيت فقال: "إن القوم لم يقع منهم البغضة، بل يدعون المحبة والمودة، ويظهرون الولاية والشفقة، وبواطن الأمور لا يعلمها إلا الله عز وجل" ثم ذكر فدكاً، فقال : "كان فيها النزاع وتأولوا خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما خلفناه صدقة" على غير ما تأولناه" ثم ختم كلامه بعد ذلك بقوله: " وقد وقعت أمور هنالك رددنا أمرها إلى الله عز وجل، ورضَّينا على الصحابة عموما، فإن دخل المتقدمون على علي عليه السلام في صميمهم في علم الله سبحانه لم نحسدهم رحمة ربهم ، وإن أخرجهم سبحانه بعلمه لاستحقاقهم فهو لا يتهم في بريته، وكنا قد سلمنا خطر الاقتحام، وأدينا ما يلزمنا من تعظيم أهل ذلك المقام، الذين حملوا حوزة الإسلام ونابذوا في أمره الخاص والعام "[24] وروى عنه ابن المظفر في (الترجمان) أنه قال: " ولا يمكن أحداً أن يصحح دعواه على أحد من سلفنا الصالح أنهم نالوا من المشايخ أو سبوهم بل يعتقدون فيهم أنهم خير الخلق بعد محمد وعلي وفاطمة"[25] ] .
وقال الإمام يحيى بن حمزة(ت749هـ) في (الانتصار) والإقدام على إكفار الصحابة وتفسيقهم دخول في الجهالة وحمق ونقصان في الدين وجرأة على الله".
ويحدد السيد أحمد الشامي بوضوح(أن الزيدية وإن عدت من فرق الشيعة والتشيع الذي اتخذه دعاة التفرقة سلاحاً للتشنيع، فهي ليست من الغالين ولا من القالين، وإنما وسط بين ذلك، فتشيعهم لم يكن إلا بمعناه اللغوي الذي هو (شيعة الرجل اتباعه) لا بمفهومه الاصطلاحي (التكفير والتفسيق) عند المغالين، وإذا كانت الزيدية ترى تقديم الإمام علي بن أبي طالب على الشيخين، فهم مع ذلك لا يرون تقدمهما الفعلي عليه مؤثراً على فضل سابقتهما إسلاماً وهجرة وجهاداً، وهذا الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى وهو من أعلام أئمة الزيدية المؤلفين المجتهدين، ومؤلفاته معتمد الدارسين، يعطينا نصه الجلي القاطع في قضية اعتبرتها بعض فرق الشيعة أعظم مأخذ أخذته على الخليفة أبي بكر عن قضية (فدك)، وإصرار فاطمة الزهراء على أحقيتها بها، ومنعها منها، فقال الإمام المهدي في مقدمة كتابه البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، قاطعاً كل لسان، بما لفظه: (مسألة: وقضاء أبي بكر في فدك صحيح)[26].
وبهذا تتضح رؤية الزيدية فيمن تقدم علياً من الصحابة، ويعلم أن اتهام الزيدية ـ كمذهب ـ بتجريح الصحابة إتهام باطل، فالزيدية ينظرون إلى الصحابة على أنهم نالوا من شرف صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم ينله غيرهم، ولكنهم في نفس الوقت بشر يجوز عليهم الخطأ كغيرهم، فمن ثبت عليه خطأ تحمل نتيجة خطئه مهما كان وكائنا من كان، بلا مبالغة في النقد ولا غلوا في الدفاع.

مكانة الإمامة وحكمها

يتوافق معظم الزيدية بمختلف تياراتها على أن وجود زعامة تقود المجتمع وفق نظام قويم أمر مهم في حياة البشر؛ لذلك اعتبروها واجباً شرعياً يلزم الأمة القيام به، فعند الصالحية أن الإمامة من مهمات مسائل الدين؛ ولكنها ليست من الأساسيات التي لا يتم الدين إلا باعتقادها، لأنها لو كانت كذلك لنص عليها القرآن وفصلتها السنة بكلام بين يعلمه كل مكلف به ويدرك معناه، فقد فصل القرآن والسنة ما هو أقل منها شأنا من الآداب والأخلاق، حتى أن أطول آية في القرآن نزلت لتشرح كيفية المداينة وأحكامها، فكيف يقال بأن هذه المسألة من أعظم مسائل الدين، ثم تترك للاستنتاج والاختلاف!؟ وعلى هذا الأساس يرعون حرمة من خالفهم في هذه المسألة فلا يكفرونه ولا يفسقونه ولا يعتزلون الصلاة خلفه.
وهذا هو موقف كثير من أئمة الزيدية البارزين، كالإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني والإمام يحيى بن حمزة، وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (ت840هـ): "هذا هو الحق عندي وعليه أهل التحصيل من الزيدية"[27]واحتج الإمام عز الدين، لذلك بأن أئمة الزيدية وعلماءهم يترحمون على المعتزلة، ويرضُّون عنهم، ويعتقدون نجاتهم، مؤكداً على أن مخالفتهم في الإمامة لا تقتضي تكفيراً ولا تفسيقاً[28]

بعض المعاصرين من الزيدية ومسألة الحصر

في عصرنا الحاضر برزت معالم التغير في هذه المسألة وذلك ما يمكن قراءته من خلال أدبيات أبرز حزبين سياسيين يمثلان في خلفيتهما التيار الفكري الزيدي وهما: (حزب الحق)، وحزب: (اتحاد القوى الشعبية)، حيث نص كل منها في أهدافه السياسية على ضرورة الحفاظ على النظام الجمهوري نوعاً للحكم المبني على الشورى وحرية الآراء في إطار الإسلام. وفي نفس الاتجاه أصدر مجموعة من علماء الزيدية المعاصرين بياناً في الرابع والعشرين من ربيع الثاني/ 1411 هـ الموافق 12/11/1990م نص على أن الولاية العامة حق لكل مسلم كفء تختاره الأمة، ووقع عنهم بعنوان (بيان شرعي لعلماء اليمن) وقع عنهم: العلامة أحمد بن محمد بن علي الشامي أمين عام حزب الحق، والعلامة محمد بن محمد المنصور، والعلامة حمود بن عباس المؤيد نائب مفتي الجمهورية يومها، والعلامة قاسم بن محمد الكبسي الأمين العام المساعد لحزب الحق، وقد نشرته آنذاك عدد من الصحف اليمنية ومن بينها صحيفة (الأمة) الناطقة باسم حزب الحق، في العدد (26) والصادر بتاريخ يوم الخميس 19 ربيع الثاني/ 1413 هـ الموافق 15/10/1992م.
وفي حوار مع العلامة أحمد الشامي ـ أمين عام حزب الحق ـ أجرته معه مجلة (البلاد) اللبنانية في عددها السادس والخمسين الصادر في جمادى الأولى 1412هـ الموافق تشرين ثاني 1991هـ يقول: "قد أصدرنا بياناً وأوضحنا فيه أن الإمامة صيغة تاريخية مضى وقتها وانقضى، وما بقي لها مكان في هذه البلاد، واعتبرنا أن قائد الأمة هو أجيرها وليس إمامها ـ إن خير من استأجرت القوي الأمين ـ فإذا صلحت أمور الأمة وسلمت شؤونها فعلى أي يد كانت، لا نشترط فيها عنصراً ولا نسباً ولا شيئاً من ذلك المهم سلامة شئون الأمة" [29]ويؤكد على هذا المعنى في مقدمة كتاب الهادي بقوله )
ثم إنا لا نختلف اليوم إن أحق الناس بأمر الأمة: أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فيكون أحسنهم سياسة، وأكثرهم علماً وإجراءً للتدبير بمقتضى العلم، مرضياً لله، مرضياً للأمة المؤمَّر عليها،فإذا ظفرنا بهذا نكون قد أحرزنا النصر المؤزر للإسلام والمسلمين: (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، ولا نتمسك بعرف ولا نسب تفريقاً مخالفاً لإرادة الله من توحيدنا صفاً وهدفاً).
.وفي حوار مع المفكر الإسلامي إبراهيم بن علي الوزير ـ أمين عام (إتحاد القوى الشعبية) ـ يقول: إن مسألة الحصر مسألة اجتهادية تماماً ووضع الزيود في هذه الحالة كوضع غيرهم من المذاهب الأخرى بالنسبة لآرائهم في مسألة شرطهم في ضرورة أن يكون الإمام من قريش تطبيقاً للحديث النبوي، والمسألة برمتها لدى هؤلاء وهؤلاء مسألة اجتهادية كما أسلفنا، قد تناسب عصراً معيناً وقد لا تناسب عصراً آخر وقد يكون لأولئك الأئمة حجتهم في ذلك العصر، ولا يكون لنا حجة في هذا العصر"[30]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق