السبت، 14 مارس 2009

ندوة التعايش(3من4)

يتحرج، يكذب على رسول الله ÷ متعمداً، فلوعلم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدّقوا قوله، ولكنهم قالوا : صاحب رسول الله ÷ رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذوا بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك . ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله ÷ شيئاً لم يحفظه على وجهه، فَوَهِم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يديه، ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله ÷ فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه .
ورجل ثالث سمع من رسول الله ÷ شيئاً يأمر به ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم إنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه إنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله ÷، ولم يَهِم( )، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه، وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه فوضع كل شئ موضعه.
وقد كان يكون من رسول الله ÷ الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله ÷، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله ÷ من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله × حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في إختلافهم وعللهم في رواياتهم))( ).
إن هذا المنهج العلوي هو أقدم وثيقة علمية في الفكر الحديثي وفيه دلالات وإشارات هامة تستدعي التأمل والتدقيق، ولعلنا ندرك بعضها من خلال هذه الأمور التي لخصها بعض العلماء في جملة من الأسباب( ):
1- ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد؛ لأن الإحاطة بجميع الأحاديث شبه متعذرة أو قد تكون متعذرة، وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة في ميراث الجدة، حتى أخبره من يرويها( )، وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبي موسى الأشعري وغيره( )، وكان لا يدري حكم المجوس في الجزية حتى ذكر له عبد الرحمن بن عوف حديث: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب))( ).
2- قد يبلغ الحديث الفقيه ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه من وجهة نظره، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به، والخلاف بين العلماء في تقويم الرجال قائم، ومثال ذلك: ما رواه سفيان بن عيينة قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الحناطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة ما بالكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله ÷ فيه شيء، قال: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله ÷ أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع، فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد، عن ابراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود: أن رسول الله ÷ كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود إلى شيء من ذلك، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن ابراهيم، فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر صحبة أو له فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله، فسكت الأوزاعي.
3- اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة، فإن كثيراً من الحجازيين مثلاً يرون أن لا يحتجوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز( ).
4- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه، وذلك كنسيان عمر لحديث التيمم من الجنابة حتى ذكرّه به عمار بن ياسر( )، وكأن عمر لم يفهم من القرآن إلا أن التيمم يرفع الحدث الأصغر وحده.
5- عدم العلم بدلالة الحديث، مثل: ((لا طلاق في إغلاق))( ) هل الإغلاق هو الإكراه أم هو استغلاق الذهن وانسداد أبواب الفهم بسبب طارئ كالغضب الشديد أو سبب مستمر كالجنون، وقد اختلفت الفتاوى باختلاف الأفهام في الكلمة.
6- اعتقاد الفقيه أن لا دلالة في الحديث على ما يراد، والفرق بين هذا وما قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، وأما هنا فقد عرف الجهة وردها لسبب قائم لديه.
7- الاختلاف في تساوي الدلالات المختلفة في إفادة المعنى وصعوبة الترجيح، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز.
8- قد يكون الفقيه مع جودة حفظه واستنتاجه قد أخطأ في تقرير المقدمات التي انتهت بالنتيجة التي رآها، وذلك مثل من يقول: ((لا أعلم أحداً أجاز شهادة العبد)) مع أن قبول شهادته محفوظة عن الإمام علي وأنس وشريح وغيرهم.
9- من الفقهاء من يرد الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجلي، ومنهم من يرده إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه.
10- قد يحفظ البعض المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، كما في الخبر المروي عن علي ×، قال: لما كان في ولاية عمر جاء سعد بن أبي وقاص، فقال: يا أمير المؤمنين ما لقيت من عمار؟ قال: وما ذاك؟ قال: حيث خرجت وأنا أريدك ومعي الناس فأمرت منادياً فنادى بالصلاة، ثم دعوت بطهور ومسحت على خفي وتقدمت أصلي، فاعتزلني عمار، فلا هو اقتدى بي ولا تركني، وجعل ينادي من خلفي يا سعد أصلاة بغير وضوء؟
فقال عمر: يا عمار اخرج مما جئت به، فقال: نعم المسح قبل المائدة، فقال عمر: يا أبا الحسن ما تقول؟ قلت: أقول إن المسح كان من رسول الله ÷ في بيت عائشة والمائدة نزلت في بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة، فقالت عائشة: كان المسح قبل المائدة( ).
السبب الثالث: التباين في القواعد الأصولية والفقهية وضوابط الاستنباط، فهنالك من يعتبر فتوى الصحابي حجة، وبعضهم لا يرى ذلك، بل يعتمد فقط على ما يرويه الصحابي عن النبي الأعظم ÷، وهنالك الاختلافات الناجمة عن حجية مفهوم المخالفة لدى الشافعية والمالكية من جهة، والحنفية من جهة أخرى، والاختلاف في فهم مقاصد الشريعة وعللها، والاختلاف في عملية بناء الحكم، وهل يبنى على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح أم لا، أو على قاعدة المصالح المرسلة( ).
ضرورة التقريب
ويتعين علينا إذا ما أردنا التقريب الحقيقي بين المذاهب الإسلامية فهم هذه الأسباب المذكورة ومعرفة الثوابت التي لا مسرح للإجتهاد فيها أصلاً كالأمور الاعتقادية المبنية على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن المشابهة والمماثلة والتجسيم ومتعلقاتها، وتنزيهه عن الفساد، والرضا بمعاصي العباد، وكالأمور العبادية التوقيفية بطبيعتها وأدائها، وأصول المعاملات في النكاح والطلاق والبيوع ونحوها، والتفريق بينها وبين المتغيرات أو الفرعيات ذات الطابع الظني هذا من جانب.
ومن جانب آخر الابتعاد عن الخصومات الناتجة عن التعصب الطائفي الذي لا يتماشى مع أهداف وحدتنا التشريعية، ومقاصدها النبيلة، ولا بد أن نفرق بين الخصومة المتولدة عن الطائفية والعصبية والاجتهاد المتولد عن تعدد الآراء، فالخصومة تؤدي إلى الافتراق، وتنوع الاجتهاد يؤدي إلى الوفاق، وسعة الأفق الفقهي.
ولنعلم أن الخصومة المذهبية هي إحدى أهم الأسلحة للخطة الصهيو أمريكية فيما تسميه بـ(الشرق الأوسط الجديد!) فهي تريد إذكاء الخلافات، وتغذية الصراعات بين المذاهب، وجعلها طوائف متصارعة، وجماعات متنازعة، وإذا كانت قد نجحت مخططات سلفهم في تمزيق الجسد الإسلامي وجعله أقاليم متنازعة ودويلات مختلفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق