السبت، 14 مارس 2009

1من5 )الإختلاف الفقهي وتعدد المذاهب( لعبدالله العزي) قدم في ندوة التعايش

الإختلاف الفقهي وتعدد المذاهب
بقلم: عبدالله حمود العزي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابته المنتجبين الراشدين، من يومنا هذا إلى يوم الدين.. وبعــد:
فإن الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية يدل على الحيوية الفكرية المتجددة التي يتمتع بها فقهنا الإسلامي، ولذا لا ينبغي لاختلاف كهذا أن يفسد للود قضية فيما بين المسلمين، ولا أن يقف عائقاً أمام وحدتهم الإسلامية؛ لأن جميع المذاهب الفقهية قد جمعتهم وحدة تشريعية واحدة، لا يمكن تجاوزها أو تخطيها، وإنما تتفاوت الأنظار في طريقة فهم النص التشريعي المحتمل لأكثر من معنى في لفظه أو اشتماله، أو في كيفية قبول خبر الواحد وطرق استنباط الحكم منه، وقد بدأت تتفاوت الأنظار في فهم ذلك منذ بداية القرن الأول.
عصر الصحابة:
فالنبي ÷ أقر الصحابة على فهمهم عندما قال في غزوة الخندق: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة))( )، فالتزم بعض الصحابة بما تضمنه قوله هذا ÷ وهو (الاستعجال) ـ حسب فهمهم ـ فصلوا الصلاة لوقتها، والتزم البعض الآخر بظاهر قوله ÷ فلم يصلوا العصر إلا في بني قريظة بعد خروج الوقت.
ولما أرسل الرسول الأعظم ÷ معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن قال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء))؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال ((فإن لم تجد في كتاب الله))؟ قال: فبسنة رسول الله قال: ((فإن لم تجد في سنة رسول الله)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله ÷ صدره، وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله))( ).
وبعد وفاة النبي ÷ بدأ الإجتهاد يتنامى في أوساط الصحابة شيئاً فشيئاً بفعل ظهور مشكلات ونوازل جديدة، خاصة بعد انتشار الإسلام في بلاد مختلفة الثقافات والعادات.
عصر التابعين:
وأما في عصر التابعين فقد اتسع اتساعاً كثيراً نظراً للاحتكاك الحضاري بين المجتمعات والبلدان التي دخلت الإسلام، وتفرق الصحابة بها، وشيوع رواية الحديث على اتساع دائرة البحث الفقهي.
غير أن الملاحظ في عصرهم بروز عامل جديد أثر في طبيعة الإنتاج الفقهي والحرية الاجتهادية تمثل في تحويل حكام بني أمية نظام الحكم في العالم الإسلامي من الخلافة إلى الملك، وتحويل أغلب السنن إلى بدع، والبدع إلى سنن، والتفريق بين المسلمين، وإغلاق باب الاجتهاد أمام المجتهدين، وفرض آراء السلطة وتوجهاتها، الأمر الذي أدى إلى التضييق على العلماء وعزلهم عن الدور المباشر المناط بهم.
ولهذا قام الإمام زيد بن علي رضي الله تعالى عنه بأعباء إصلاح هذا الخلل الخطير والشر المستطير، مذكراً العلماء بدورهم الحقيقي في عملية الإصلاح والتغيير( )، وحماية الدين، من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، قال ـ رضي الله عنه ـ : ((إني أدعو إلى كتاب الله، وسنة نبيه، وإحياء السنن، وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل))( ).
ولولاه ـ رضي الله عنه ـ ومعه ثلة من أئمة الفقه المخلصين بعد الله سبحانه وتعالى لاستطاعت السلطة الأموية فرض لون واحد من الفقه المشوب بالبدع، وإظهاره كسنة يجب إتباعها والتقيد بها.
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه القضية فهي واسعة ومتشعبة وليس هذا مجالها، ولكن ما يهمنا هنا هو أن تلك المرحلة التي قام فيها سليل البتول وعترة الرسول ÷ قد أعادت للاجتهاد دوره، وللفقه اعتباره وحيويته.

نشأة المذاهب الإسلامية
وهكذا استمر عطاء الفقهاء من أهل البيت والتابعين وتابعيهم، وبدأ ظهور المذاهب الإسلامية في أواخر النصف الأول من القرن الثاني الهجري.
وقد ظهرت تلك المذاهب، وتكونت على إثرها ثروة فقهية ضخمة، وطرق استنباطية منظمة، أسسها أئمة عظماء، وتعلق بهم فقهاء مخلصون خدموا تراثهم تدويناً وتعليماً وتأصيلاً وتخريجاً، وترسخت آرائهم، وتكاملت مناهجهم، وظهرت تدريجياً مذاهبهم الفقهية بالتدريج، وهي (الزيدي، والجعفري، والحنفي، والمالكي، والشافعي، والإباضي، والحنبلي) وهي أشهر المذاهب في عصرنا الحاضر.
وإنني أحسب أن من الأشياء المهمة التي تجعل التقارب أمراً واقعياً هو معرفة هذه المذاهب والإطلاع على ما لديها من خلال كتبها المعتمدة ومراجعها الثابتة، لا من خلال ما ينقله عنها خصومها، وهذا هو معيارنا الذي سنعتمده في الكلام عن المذاهب الفقهية مذهباً مذهباً.
المذهب الزيدي:
نسبة إلى الإمام الأعظم زيد بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام، ولد سنة (75هـ) واستشهد سنة (122هـ).
والحقيقة في مذهب الزيدية أنهم أتباع أهل البيت عليهم السلام عموماً، وإنما أضافوا مذهبهم على وجه الخصوص إلى الإمام زيد بن علي × باعتباره العلم المميز لها، قال الإمام عبد الله بن الحسن المتوفى سنة (145هـ): ((العلم بيننا وبين الناس علي بن أبي طالب، والعلم بيننا وبين الشيعة زيد بن علي))( )
والمقصود بهذا أن الإمام زيد بن علي × هو الذي ميز خط أهل البيت الذي يشتمل على قواعد فكرية عقائدية تتركز على نفي التجسيم والتشبيه عن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وتنزيهه عن الفساد، وعن أفعال العباد، واعتبار أهل البيت عليهم السلام سبيل النجاة، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، وعدم محاباة الظالم.
وليست النسبة إليه × نسبة فقهية بحتة على النحو المعروف والمتبع في المذاهب الأخرى؛ لأن المذهب الزيدي يحرم التقليد على كل مجتهد قادر على الوقوف على الأدلة واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولذلك تميز بمدارسه الفقهية المتعددة، واجتهاداته المتجددة، وسنشير إلى رجال المذهب وكتبه وموسوعاته الفقهية لاحقاً، عند كلامنا عن الفقه الزيدي، كون هذا الكتاب أحد موسوعاته المهمة.
المذهب الجعفري:
نسبة إلى الإمام جعفر الصادق، بن الإمام محمد بالباقر، بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين، بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام، ولد × سنة (80هـ) وتوفي سنة (148هـ).
ومن أبرز رجال المذهب لديهم في القرن الثاني: أبان بن تغلب المتوفى سنة (141هـ) وهشام بن الحكم، ويونس بن عبد الرحمن، وهشام بن سالم، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن أبي نصر البزنطي، وزرارة بن أعين، وعبد الله بن بكير، ومحمد بن مسلم الثقفي، ووأبي بصير الأسدي.
ومن المعروف عند الإمامية الجعفرية أنهم كانوا يستخدمون لفظة (التفقه) بدلاً عن لفظة (الاجتهاد) لأن لفظة الاجتهاد كانت مرادفة للقياس لديهم، وقد أشار إلى هذا الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة الإمامية المتوفى سنة (460هـ) في كتابه (عدة الأصول)( ) ويبدوا أن الشيخ الحلي، المتوفى سنة (676هـ) هو أول من أطلق لفظة (الاجتهاد) على الاستنباط عند الإمامية في كتابه (معارج الوصول في علم الوصول)( ) ومذهبهم حالياً يقوم على الاجتهاد والمرجعية.
ومن أبرز كتبهم الفقهية (وسائل الشيعة في أحكام الشريعة) للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة (1104هـ) و (الوافي) للشيخ الكاشاني المتوفى سنة (1091هـ) و (بحار الأنوار) للمجلسي، المتوفى سنة (1111) هـ، وغيرها كثير.
المذهب الحنفي:
نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، ولد سنة (80هـ) وتوفي سنة (150هـ). أخذ عن الإمام محمد الباقر، وعن الإمام زيد بن علي ×، والإمام جعفر الصادق ×، والإمام عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والإمام حماد بن أبي سليمان، وسمع من عطاء بن أبي رباح، ونافع ـ مولى ابن عمر .
أما تلاميذه الذين انتسبوا إليه انتساب المتعلم للمعلم وليس انتساب الـمُقلِّد للمُقَلَّد فأشهرهم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة (182هـ) وهو أول من دون من تلاميذ أبي حنيفة، وأغلب كتبه مفقودة، ولم يصل إلينا منها إلا رسالته في (الخراج) وهو يقارن فيها بين آراء أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، ثم يرجح الرأي الذي يراه، ومحمد بن الحسن بن فرقد الشيباني المتوفى سنة (189هـ) ومن مؤلفاته (الجامع الكبير) و (الجامع الصغير) و (المبسوط) وزفر بن الهذيل الكوفي المتوفى سنة (158هـ) وعلى هؤلاء الثلاثة مدار مذهب أبي حنيفة.
ومن الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي إضافة إلى الكتب السابقة كتب العلامة أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، ومنها: (اختلاف الفقهاء) و (شرح مشكل الأحاديث) وكتاب (معاني الآثار) وغيرها من الكتب لكثير من علماء الحنفية.
المذهب المالكي:
نسبة إلى الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر، ولد سنة (93هـ) وتوفي سنة (179هـ) وقد أخذ عنه كمحدث بعض من شيوخه، أمثال: يحيى بن سعيد، وموسى بن عقبة، وربيعة بن عبد الرحمن، وغيرهم من أقرانه كسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وسفيان بن عيينة، وأبو يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ وروى عنه بعض تلاميذه، مثل: محمد بن إدريس الشافعي، وعبدالله بن المبارك، ومحمد بن الحسن الشيباني.
وقد رحل للأخذ عنه جماعة من مصر والمغرب والأندلس، وكانوا عماد مذهبه، فمن مصر: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي المتوفى سنة (191هـ) وأبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، المتوفى سنة (197هـ) وأشهب بن عبد العزيز القيسي العامري المتوفى سنة (204هـ) وأبو محمد عبد الله بن عبد الحكيم بن أعين المتوفى سنة (224هـ.
ومن المغرب والأندلس: أبو عبد الله بن عبد الرحمن القرطبي المتوفى سنة (193هـ) وعيسى بن دينار الأندلس المتوفى سنة (212هـ) ويحيى بن كثير المتوفى سنة (234هـ) وعبد الملك بن حبيب بن سليمان السلمي المتوفى سنة (238هـ) وأبو الحسن علي بن زياد التونسي المتوفى سنة (183هـ).
ومن الكتب المعتمدة في المذهب المالكي: (الموطأ) للإمام مالك وكتاب (المبسوط) لإسماعيل بن إسحاق، وكتاب (ابن الحواز في الففه) لمحمد بن إبراهيم الاسكندري، وكتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد المشهور بـ(الحفيد) وكتاب (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة) لأبي محمد عبد الله السعدي، وغيرها كثير.
المذهب الشافعي:
نسبة إلى الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، من بني عبد المطلب بن عبد مناف، ولد سنة (150هـ) وتوفي سنة (204هـ).
وله أصحاب بالعراق ومصر، فأما أصحابه بالعراق فمنهم: أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان، ويقال أن له مذهب خاص، وأنه لا يقبل عن الشافعي توفي سنة (246هـ)، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ) والحسن بن محمد بن الصباح المتوفى سنة (260هـ) وأبو علي الحسين بن علي الكرابيسي.
وأما أصحابه بمصر فمنهم: يوسف بن يحيى البويطي المتوفى سنة (231هـ) وأبو إبراهيم بن المزني المتوفى سنة (264هـ) والربيع بن سليمان المرادي المتوفى سنة (270هـ) وحرملة بن يحيى التجبي المتوفى سنة (243هـ) ويونس بن عبد الأعلى الصوفي المتوفى سنة (264هـ).
ومن الكتب المعتمدة في المذهب الشافعي مؤلفات الإمام الشافعي، ومنها: (أدلة الأحكام) و (الأم) و (اختلاف الحديث) وكتاب (شرح مختصر المزني) لأبي إسحاق المروزي، و (المنهاج) لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، وغيرها كثير.
المذهب الحنبلي:
نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل الذهلي الشيباني المرزوي، ولد سنة (164هـ) وتوفي سنة (241هـ) وأشهر من روى عنه مذهبه: أبو بكر أحمد بن محمد بن هادي، المعروف بالأثرم، وأحمد بن محمد بن الحجاج المروزي، وإسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه.
ومن أشهر الكتب الفقهية الحنبلية (المغني) لابن قدامة و (الشرح الكبير) له أيضاً، و (الفروع) لابن مفلح.. وغيرها كثير.
المذهب الإباضي:
نسبة إلى عبد الله بن إباض المري التميمي ولد سنة (22هـ) على أرجح الأقوال وتوفي سنة (95هـ) تقريباً.
ويرى الإباضيون أن التأسيس الحقيقي لمذهبهم يعود إلى الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني أبو الشعثاء المتوفى سنة (93هـ). أخذ عن ابن عباس المتوفى سنة (68هـ) كثيراً من العلوم والمعارف، ولازمه ملازمة التلميذ لشيخه، وقال ابن عباس عنه: ((لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً بما في كتاب الله))( ).
ومن أبرز تلاميذ جابر بن زيد: أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة المتوفى سنة (150هـ) وضمام بن السائب، وأبي نوح صالح الدهان، ومن أبرز تلاميذهم: الربيع بن حبيب بن عمرو الأزدي المتوفى ما بين (175-180هـ) وهو صاحب (الجامع الصحيح) المشهور عند الإباضية، والذي قام بشرحه الشيخ نور الدين عبد الله بن حميد السالمي العماني المتوفى سنة (1332هـ).
ومن أهم كتب الإباضية الفقهية: (المدونة) لأبي غانم الخراساني، و (الجامع) لابن بكرة البهلوي، و (المصنف) لأحمد بن عبد الله الكندي، و (بيان الشرع) لمحمد الكندي، و (شرح النيل) للقطب أطفيش الجزائري، و (الضياء) للعوتبي، وغيرها كثير.

أسباب الاختلاف الفقهي
وهنا قد يبرز سؤال عن أسباب الاختلاف بين هذه المذاهب وتعدد الإجتهادات داخلها؟
والجواب: أنه من الممكن أن نحصر أسباب الاختلاف الفقهي بين هذه المذاهب، أو بين أعيان المذهب نفسه في ثلاثة أسباب رئيسية، وهي:
السبب الأول: الاختلاف في طبيعة فهم النص:
إما لاحتماله أكثر من معنى، مثل: اختلافهم في مدلول لفظ (قرء) في قوله تعالى: &وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ^ [البقرة: 228]. فإن لفظ (قرء) يطلق على: الطهر بين الحيضتين، وعلى الحيضة نفسها، فذهب: عليٌ، وعبد الله بن مسعود، وعمر، إلى أن المراد: الحيضة، وذهب: زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، أن المراد: الطهر بين الحيضتين.
أو لتعارض ظواهر النصوص، كما في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فقد ورد في ذلك نصان:
أحدهما: قول الله تعالى: &وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ^ [الطلاق: 4] وثانيهما قوله تعالى: &وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا^ [البقرة: 234] فالذي يستفاد من عموم الآية الأولى: أنها تشمل الحامل المتوفى عنها زوجها والمطلقة، وإلى هذا ذهب ابن مسعود، وأما الإمام علي × وابن عباس، فأعملا النصين، قالا: تعمل بأبعد الأجلين.
أو لدلالة النص، هل هي للوجوب أو للندب، كالأمر في قوله تعالى: &فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ^ [الطلاق: 2] فالأمر بالإشهاد عند الطلاق للوجوب عند البعض، وعند البعض الآخر للإستحباب.
السبب الثاني: الاختلاف في رواية الحديث، وإلى هذا ترجع معظم الاختلافات الفقهية، ومن خلال تصنيف أمير المؤمنين علي × رواة الأحاديث ندرك جيداً أنه قد شخّص ـ ومنذ وقت مبكر ـ مجمل الأسباب والعلل التي وقفت وتقف وراء الاختلاف حول التمييز بين صحيح السنة من سقيمها، ومعرفة خاصها وعامها، ومجملها ومبينها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، والذي يترتب عليه الاستنباطات الفقهية، قال رضي الله عنه :
((إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً ولقد كذب على رسول الله ÷ على عهده حتى قام خطيباً فقال : ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))( ) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :
رجل منافق مظهر للإيمان،متصنع بالإسلام، لا يتأثم( ) ولا يتحرج، يكذب على رسول الله ÷ متعمداً، فلوعلم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدّقوا قوله، ولكنهم قالوا : صاحب رسول الله ÷ رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذوا بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك . ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك إلا من عصم الله فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله ÷ شيئاً لم يحفظه على وجهه، فَوَهِم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يديه، ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله ÷ فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه .
ورجل ثالث سمع من رسول الله ÷ شيئاً يأمر به ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم إنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه إنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله ÷، ولم يَهِم( )، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه، وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه فوضع كل شئ موضعه.
وقد كان يكون من رسول الله ÷ الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به، ولا ما عنى رسول الله ÷، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله ÷ من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله × حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في إختلافهم وعللهم في رواياتهم))( ).
إن هذا المنهج العلوي هو أقدم وثيقة علمية في الفكر الحديثي وفيه دلالات وإشارات هامة تستدعي التأمل والتدقيق، ولعلنا ندرك بعضها من خلال هذه الأمور التي لخصها بعض العلماء في جملة من الأسباب( ):
1- ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد؛ لأن الإحاطة بجميع الأحاديث شبه متعذرة أو قد تكون متعذرة، وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة في ميراث الجدة، حتى أخبره من يرويها( )، وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبي موسى الأشعري وغيره( )، وكان لا يدري حكم المجوس في الجزية حتى ذكر له عبد الرحمن بن عوف حديث: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب))( ).
2- قد يبلغ الحديث الفقيه ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه من وجهة نظره، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به، والخلاف بين العلماء في تقويم الرجال قائم، ومثال ذلك: ما رواه سفيان بن عيينة قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الحناطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة ما بالكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله ÷ فيه شيء، قال: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله ÷ أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع، فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد، عن ابراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود: أن رسول الله ÷ كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود إلى شيء من ذلك، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن ابراهيم، فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر صحبة أو له فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق