الأربعاء، 22 أبريل 2009

الزيدية بين الانتماء المذهبي والولاء الوطني (عبدالملك العجري

أظهرت الحربُ في شمال اليمن وفي محافظة صعدة على وجه الخصوص أن هنالك محاولات جدية لاحداث حالة من الاحتقانَ الطائفي والعمل على ان يبلغ مديات جَدَّ خطيرة على السلم الاجتماعي والتعايش السلمي بين اليمنيين ومذاهبهم المختلفة. واذا ما اضيف الوضع في الجنوب والذي يعيش حالة من حالات الثورة السلمية تتصاعد يوما بعد يوم ، وكلاهما تعبير عن الفشلُ الذي مني به اليمنيون في تطوير نظام سياسي يقوم على العدالة والحرية والمساواة، ويستوعب التعدد، ويراعي كـُـلّ الخصوصيات والتنوعات داخل المجتمع، ويتيح أكبر قدر من المشاركة السياسية بالشكل الذي يساعد على تعزيز وتوحيد الولاء السياسي للوطن بعيدا عن منطق الغلبة وفرض إرادة المنتصر.

الثورة والوحدة منجزات وطنية لا غبار عليها لكن كما استطاع نظام 94م أن يسرقَ فرحة أبناء الجنوب بالوحدة فإن التحالف أو قُل تقاسم النفوذ الذي تم بعد الثورة (سبتمبر) بين العسكر والقوى القبلية المتحالفة مع السلفية السياسية (الإخوان المسلمين في البداية) انحرف بالثورة عن أهدافها الحقيقية بالشكل الذي أثار التخوفات الزيدية باعتبارها المستهدف من هذا التقاسم أو التحالف رغم أن الثورة قامت على أيدي أبناء الزيدية. وغيرهم من ابناء اليمن

هذه السياسةُ أدت إلى إضعاف مشاعر الهوية الوطنية وإلى تكريس الانتماءات الفرعية المذهبية والمناطقية والقبَـلية وتحويلها إلى ولاءات سياسية تنافس إن لم تتغلب على الولاء الوطني الواحد نفسه .

ومع أن ضعف مشاعر الهوية الوطنية أو فتور الإحساس بالولاء الوطني من الظواهر التي برزت بقوة على الساحة العربية في السنوات الأخيرة إلا أنها في المجتمعات التي تتميز بنيتها الديمغرافية بالتنوع المذهبي والتعدد الطائفي والقبلي أكثر وضوحا وأكثر حساسية.

باحثون سياسيون وإجتماعيون يرَون أن هذه الظاهرة إفرازٌ طبيعي للأنظمة المستبدة والتسلطية التي تجعلُ من نفسها وأيديولوجيتها الخاصة بها بديلاً للوطن والمواطنة أو لسيطرة جماعة أو طائفة على مقاليد صنع القرار، والافتقاد إلى مشروعات وطنية تحترم حرية الإنسان وكرامته وحرية وكرامة المجموعات الحضارية والتكوينات الفكرية والمذهبية في المجتمع وحقها في المشاركة السياسية والاجتماعية والثقافية وتعمل على تنظيم العلاقة بين الانتماءات الخاصة والولاء الوطني بشكل يمنع أي تعارض بينهما ويساعد على إرساء قواعد الاستقرار السياسي.

يؤكد بعضُ الباحثين على ضرورة التفريق بين مفهومَي الانتماء والولاء، فالانتماء طائفياً كان أو مذهبياً أو قبَلياً يُعَدُّ معطى موروثا ًلا كسب للإنسان فيه، بينما الولاء خيار يتخذه الإنسانُ وعلى أساسه يرتب بعضُ تصرفاته وسلوكياته فلا تناقض بين واحديه الولاء وتعددية الانتماءات وبحسب هؤلاء فان الوطن ما هو إلا إرادة جميع الخصوصيات في العيش المشترك.

ويؤكد د/عصام عَبْدالله أن الوطنيةَ هي التحديد الأخير لمواطني دولة ما وهو تحديد لا ينفي أو لا يلغي عن المواطن انتماءَه الاثني أو الديني أو المذهبي.

والنظم السياسية الأحادية التي لا تؤمنُ بقيم الشراكة الوطنية والعيش المشترك وتصادر حق الآخرين الفكري والسياسي لا تؤدي إلا إلى تعميق الفرز الطائفي وإلا إلى تقوية حالة الانتماء الطائفي أو المذهبي والقبلي لدى الجماعات المهمشة، فالظلمُ والاضطهاد والمصادرة والتهميش والتسلط تنعكس سلباً على مشاعر المواطنة.

بناءً على ذلك اليمن دولةٌ تتميزُ بالتنوع الثقافي والتعدد المذهبي فضلا عن الكيانات الاجتماعية المختلفة والهويات المحلية في الجنوب والشمال وحضرموت وتهامة وغيرها ، وهذا التنوع والتعدد لا يشكل أيَّ خطر على الوحدة الوطنية، بل أنه يشكل عاملاً ايجابياً في تعزيزها وإثرائها إذا ما تم توظيفه بالطريقة الصحيحة، لكن المفارقة أن أياً من الأنظمة السياسية المتعاقبة بعد الثورة وبعد الوحدة لم تعكس هذا التنوع والتعدد في تركيبتها السياسية، ولا تريد أن تعترفَ به، بل تذهبُ في أحيان كثيرة إلى حد تجريم وتخوين كلِّ من ينادي بضرورة التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع اليمني لتحقيق الاستقرار والحفاظ على الوحدة الوطنية.

والنتيجةُ الطبيعيةُ لهذا الاستئثار والتهميش هي لجوء التكوينات المهشمة في المجتمع اليمني إلى التحصن وراء أسوار كينونتها الخاصة للحصول على حقوقها المشروعة.
الزيدية في شمال الشمال
ففي الشمال تشكو بكيل من استئثار حاشد بالجمهورية والثورة، وتتعرَّضُ الشخصيةُ الحضارية والثقافية للزيدية للسحق المتواصل في ظل سيطرة الإيديولوجية الدينية للسلفية السياسية (الوهابيون -الإخوان)على مصادر الثقافة والتربية والتعليم والمنابر الإعلامية والدينية، وفي الجنوب أخذت تتكونُ على مدى أكثر من عقد من الزمان قوى الرفض لما يسمى بالاستئثار الشمالي بالسلطة إلى حد الحديث عن حق تقرير المصير.

إن الإسفافَ في التنكر للمطالب العادلة والإمعان في تجاهل حقيقة الأزمة لا يغير من حقيقة الوضع شيئاً، وإنما يؤدي تفاقمها وتراكمها إلى أن تحين ساعة الصفر.

بالنسبة للزيدية من الضروري وقف كـُـلّ أشكال الممارسات التي تستهدف طمس الهوية التأريخية للزيدية والاعتراف بحقيقة الوجود الزيدي الضارب في عمق التأريخ السياسي والثقافي والاجتماعي اليمني الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه فماضي الشعوب -كما يقول الدكتور عبد العزيزالمقالح- ليس بيتاً من قصيدة يمكن حذفه أو الاستغناء عنه وتبديله ولا هو صفحة قديمة من كتاب أصفر يمكن تمزيقها أو تمزيق الكتاب الذي يضمها.

ما عانته الزيدية من حملة إعلامية ظالمة وتهميش وإقصاء وتغييب منذ انحراف ثورة سبتمبر1962م ليس بالقليل مع أنها تمثل حضوراً واسعاً في المجتمع اليمني، تشيرُ بعضُ الأرقام غيرُ الرسمية إلى أنهم يمثلون 30٪ من إجمالي سكان اليمن.

كما قلت سابقاً لا تمثل الثورة جوهر المشكلة بالنسبة للزبدية بقدر ما تتمثل في أن الأنظمة المتعاقبة والتي وبدلا من أن تعمل على بناء دولة المؤسسات وترسيخ مفهوم للمواطنة يقوم على أساس المساواة ويحقق الاندماج الوطني بين جميع فئات الشعب اليمني ومكوناته الاجتماعية والمذهبية، دخلت التيارات الفكرية في الصف الجمهوري في صراعات بينية على الحكم ودخلت من أجل ذلك في تحالفات كرست علاقات للمواطنة تقوم على أسس قبلية ومذهبية وعرقية.

تغييب الزيدية حقيقة لبيانها من الضروري الإشارة إلى دور الإخوان المسلمين وإسهامهم الأساسي في فكر الثورة في الشمال وفي تحديد هويتها الثقافية والدينية والى التحالف الذي تم فيما بينهم وبين القوى القبلية.

فعندما قدم عَبْدُالناصر إلى اليمن كان الإخوان المسلمون قد سبقوه إليها، إذ توجهت إليه أنظارهم في مرحلة مبكرة، فاليمن في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي كان لا يزال خارجَ الفضاء العربي المشغول بالعروبة السياسية في هذه الفترة بعيداً عن الهيمنة الثقافية والحضارية للغرب، فرأى الإخوان المسلمون أن اليمن يشكل أرضاً خصبة لمشروعهم السياسي ويبعث البناء إلى اليمن الفضيل الورتلاني الذي -يُعَدُّ بحق مهندس ثورة 48م وصاحب فكرة الميثاق الوطني المقدس وصاحب التأثير القوي على المعارضة الوطنية في الداخل والخارج- وقد تعمقت صلة الإخوان بالمعارضة بعد فشل ثورة 48م من خلال الزبيري والمخلافي والزنداني وغيرهم في مصر.

وبقيام الثورة أصبح للقوى الإسلامية حضورٌ فاعلٌ، ولم يكن للقوميين العرب أو حملة الفكر اليساري -كما يقول الشيخ عَبْدالله الأحمر في مذكراته- وزنٌ ثقيلٌ ضمن تشكيلة الثورة، وقد زاد من قوة الأولى تحالفها مع القوى القبلية التي التقت مع الاسلامين في الموقف من القوميين وإن اختلفت دوافع كلٍّ منهما، حيث الخوف على العقيدة وقيمها من الفكر اليساري هو دافع الإسلاميين والخوف على القبيلة وقيمها هو الدافع الأساس للقوى القبلية، وبهذا تمكن الإخـْوَان المسلمين من الإسهام بشكل بارز في صياغة وتشكيل الثقافة الدينية والوطنية وفي صياغة وتشكيل المناهج الدراسية

أما بالنسبة للزيدية فكانت محل استهداف لأكثر من جهة في الأنظمة التي قامت في الشمال و في فكرها وتراثها وأعلامها ومناهجها ، بعد أن تم الربط بينها وبين الملكية وآل حميد الدين، فمع احتدام الصراع بين الجمهوريين والملكيين وبإيحاء من الثقافة الثأرية -كما يسميها د/الظاهري- السمة التي تكاد تكون غالبة على الأنظمة السياسية في اليمن والتي لا تقف عند حدود تصفية الخصم بل تمتد إلى كـُـلّ ما يظن أن له به أدنى صلة، رُميت الزيدية بكل حجر ومدر، وتعرضت لحملة إعلامية مسعورة استهدفت علماءَها وتراثـَها وتأريخَ إئمتها على مدى عشرة قرون والنظر إليهم بعين واحدة مع المملكة المتوكلية كنقطة سوداء في تأريخ اليمن يجب محوها أو الخلاص منها وظهرت كتابات مشحونة بالطائفية والعنصرية والتحريض وصار الحديث عن الزيدية بمثابة الدعوة للإمامة. الامر الذي ادى الى انكفاء الزيدية على نفسها مقابل طمر تراثها والازراء به بعد أن تم تجريمُه وتسلم لهذا الواقع الذي بدا وكأنه قدرها وأصبحت أقصى ما تطمح إليه هو الاعترافُ بحق أتباعها في الحياة.

قد يقفزُ إلى الذهن تساؤلٌ أظنه مشروعاً وهو: لماذا التركيز على دور الإخوان المسلمين دون سواهم من التيارات الفكرية التي استغلت الثورة على كثرتها؟.

ذلك لسبب بسيط وهو أن الفكر الإخواني ذا الخلفية السلفية هو الفكر الديني الذي يقابل الفكر الديني الزيدي أولا، وثانياً لأنه -أي الفكر الإخـْوَاني- نجح في أن يسيطر سيطرة شبه كاملة على الثقافة الدينية للدولة اليمنية وعلى التعليم الديني في المدارس والمعاهد والجامعات وعلى الخطاب الديني للإعلام الرسمي.

حق الإخوان المسلمين في المشاركة والإسهام في الحياة السياسية والفكرية والدينية لا ينكره أحد، لكن في مجتمع متعدد مذهبياً فإن مسألة الثقافة الدينية والتعليم الديني فيه تكون ذات حساسية بالغة لا سيما في ظل نظام يتمسك بالهوية الدينية للدولة كاليمن؛ لأنه في الأنظمة ذات التوجه العلماني يعطى لكل طائفة الحق في تنظيم شؤونها الروحية واختيار المادة التعليمية مع نوع من الإشراف للدولة

إن فرض رؤية ما أو ثقافة معينة تمثل طرفاً واحداً هو الطرف المنتصر على بقية الأطراف الأخرى يولد لديها الميلَ إلى المقاومة بإشكالها المختلقة لمنع الاستبداد الوقع عليها، ويخلق حالةً من التوتر بين الانتماءات المذهبية والسياسية والوطنية.

في اليمن وعلى مدى أكثر من أربعة عقود -هي عمر الثورة- والزيدية فكرياً وسياسياً هي الحاضر الغائب والمتهم أيضاً، وفي المقابل كانت مكانة الإخوان المسلمين والتيار السلفي تتعززُ يوماً بعد يوم لتصل عصرَها الذهبي في عهد الرئيس/ علي عَبْدالله صالح، وتخرج فكرة المعاهد العلمية إلى حيز الوجود التي منذ إنشائها كانت تستهدف أطرافاً ثلاثة (الزيدية، الصوفية، اليساريين) أو كما يسميها الشيخ عَبْدالله الأحمر في مذكراته (التطرف الشيعي، التطرف الصوفي، التطرف اليساري).

وتبقى الزيديةُ تصارعُ من أجل البقاء رغم كـُـلّ محاولات الإقصاء والإلغاء. ورغم كـُـلّ الخسائر التي لحقتها ظلت تقاومُ كـُـلّ أسباب الفناء التي بدت الزيدية أمامَها حقيقة مستعصية ارتبطت بالإنسان اليمني وارتبط بها وعاشها فكراً وسلوكاً، تأثر بها وتأثرت به وانعكست عليها ملامح الشخصية اليمنية التي لا تستسلم بسهولة لمبدأ الأمر الواقع، المشبعة بروح التمرد أمام كـُـلّ ما يُلغي شخصيتها.

ما إن قامت الوحدة واعتمد نظامها الديمقراطية والتعددية حتى نشطت ذاكرةُ الزيدية السياسية محاولة الانبعاث من جديد، والتخلص من حالة الركود والسلبية التي طالت وما كان لها أن تطول. وفي محاولة جادة منها لاستيعاب المتغيرات والمستجدات التي طرأت على الحياة يصدر مجموعة من علماء الزيدية بياناً أكدوا فيه التزامَهم بالجمهورية وتمسكهم بكل الثوابت الوطنية، مؤكدين على أن زمن الإمامة قد انتهى بانتهاء مبرراته الاجتماعية.

لقد ساورت الزيدية السياسية الظنون أن مرحلةً جديدةً قد بدأت وأن مرحلة التقاسم وقيَم الغلبة والانتماءات التحتية التي على أساسها تم التقاسم قد ولت وحل بدلاً عنها قيَمُ العيش المشترك والمشاركة والمواطنة المتساوية فلا غالب له كـُـلّ الحقوق ولا مغلوب ليس له أي حق وأن النظام أصبح أكثر استعداداً من أي وقت مضى للمشاركة وأن تقسيم اليمنيين إلى وطنيين شرفاء وإماميين رجعيين أصبح في خبر كان.

ويعيشُ الجميعُ هذه الحلم الجميل الذي ما لبث أن تحول إلى كابوس مزعج قاموا على إثره مفجوعين مفزوعين، فالنظامُ بتركيبته العسقبلية السلفية ما زال هو هو، يرفضُ كـُـلَّ قيم الشراكة والمشاركة ويحول كـُـلَّ معاني الديمقراطية والتعددية سواداً على بياض.

فهو وإن وجد نفسَه في لحظة تأريخية معينة مضطراً للقبول بالمشاركة إلا انه نجَحَ في تجاوزها، وفجأة يجد شريكاً بحجم الاشتراكي نفسه لا خارج السلطة فحسب بل خارج الوطن بكله.

ويأبى هؤلاء إلا أن تكون الجمهوريةُ جمهوريتـَهم والوحدة وحدتهم والوطنُ ميراثاً لهم ولأبنائهم ومن يحب العيش على فتات موائدهم وما جادت به نفوسُهم فبها ونعمت ومن أبى فهو إنفصالي عميل أوْ إمامي رجعي بائد.

وتتعرض الزيدية السياسية لصفعة تلو صفعة، وتوصد الأبواب بوجه كـُـلِّ محاولات إثبات حسن النوايا إزاء النظام الجمهوري، وترفع بوجهها التهمة الأثيرة تهمة الإمامة التي ترددت على مسامعنا إلى حد الغثيان..

دعك من حكاية عقارب الساعة التي يسهرون على حراستها من أي تسلل زيدي لتأخير عقاربها وبعد كـُـلِّ هذه المدة المديدة يفاجأ الزيديةُ بأنهم لا يزالون مجرد مخلفات للعصر البائد..

الخلاصةُ أن الأنظمةَ والحكومات المتعاقبة منذ ما بعد قيام الثورة في الشمال ظلت تفتشُ عن إمام في صعدة وفي الأوساط الزبدية فلما لم تجده صنعت من الحوثي إماماً وحاربته.
------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق